كشف النظام السوري في الآونة الأخيرة عن مصير الآلاف من المعتقلين المختفين قسريَّاً، والذين تراوحت أغلب عمليات اعتقالهم حدثت بين العامين 2011_ 2012 ، أي في الفترة التي يعترف بها النظام نفسه بسلمية المظاهرات والحراك الثوري، وقد كان يُنكر اعتقالهُ لهم أنهم متواجدين في سجونهِ السريَّة، مثل سجن صيدنايا سيء السمعة، وفي الأفرع الأمنية المنتشرة في ربوع البلاد، وعلى مدى سنوات من بحث ذويهم عنهم وتعرضهم للكثير من عمليات الابتزاز من تابعي النظام وزبانيته ودفعهم مبالغ مالية كبيرة في سبيل الحصول على أي معلومة عن أبنائهم.
وبعد سنوات على اختفائهم يقوم النظام بكل وقاحة بالكشف عن مصيرهم بإرسال قوائم بأسماء الآلاف من هؤلاء المعتقلين مع شهادات تفيد بوفاتهم، وأغلب هذه الوفيات حدثت في العام 2013 إلى دوائر النفوس المختلفة، كان آخرها قائمة بأسماء ألف معتقل من مدينة داريا.
ولم يكن سبب الوفاة المكتوب ضمن الشهادات المُسلَّمة إلى دوائر النفوس كما وثقها المئات من تقارير المنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية، والآلاف من شهادات الناجين من الاعتقال من جحيم سجون وأفرع النظام السوري، بالقتل تحت التعذيب بالكثير من الطرق الوحشية وبسبب التجويع وعدم وجود أي عناية طبية تُذكر، وتذكر هذه التقارير قتل أكثر من خمسين ألف معتقل تحت التعذيب، ثلاثة عشر ألف معتقل منهم موثقون بالأسماء، وإنما كان سبب الوفاة كما يدعي النظام السوري هو (الذبحة القلبية).
وفي العودة للتذكير ببعض المعلومات المذكورة في بعض تقارير المنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية، يقول تقرير لمنظمة “تحليل بيانات حقوق الإنسان” وهي منظمة غير حكومية تستخدم أساليباً علمية لتحليل انتهاكات حقوق الإنسان، بأنَّ ما لا يقل عن 17723 شخصاً قد قتلوا في مراكز أمنية تابعة (للحكومة السورية) خلال الفترة ما بين آذار 2011 وكانون الأول 2015 أي بواقع 300 وفاة خلال كل شهر، بدون أي كشفٍ من النظام عن مصيرهم أو حتى الاعتراف باعتقالهم، وتقول المنظمة بأنَّ هذا الرقم يشكِّلُ تقديراً متواضعاً، ويرجَّحُ أن يكون عدد القتلى في السجون السورية أكثر بكثير.
وتُبرز صور “قيصر” وهو شخص كان يعمل كمصور للجيش السوري، وقد نجح في تهريب الآلاف من هذه الصور التي تُظهر معتقلين قضوا نحبهم في سجون النظام السوري منذ عام 2011، وبحسب منظمة العفو الدولية في تقريرها الصادر عام 2015 بعد التحقق من مصداقية هذه الصور، أشارت إلى أنَّ أكثر أسباب الوفاة شيوعاً في هذه الحالات كان الإصابة بالالتهابات المعوية، والزحار، والجفاف الشديدين، والالتهابات الناجمة عن الأمراض الجلدية، والتعذيب والإجهاد النفسي، والأمراض المزمنة التي حُرموا من الحصول على الأدوية والرعاية الطبية اللازمة لعلاجها .
وضمن ما يعتمده النظام السوري منذ العام 2011 في فرض أحوال معيشية على المعتقلين لديه بقصد إهلاكهم، خلُصت لجنة الأمم المتحدة للتحقيق في الجمهورية العربية السورية إلى استنتاجٍ في العام 2016 “إنَّ المحتجزين لدى السُلطات السورية يتعرضون إلى جريمة إبادة، وهي إحدى الجرائم ضد الإنسانية”.
وفي إفادةٍ لعدد من الموظفين ومحتجزين سابقاً في سجن صيدنايا، ذكرتها منظمة العفو الدولية في مقابلة مع باحثي المنظمة بتاريخ 8 تشرين الأول 2016 “بأنَّ معظم المحتجزين في المبنى الأحمر من سجن صيدنايا، هم من المدنيين الذين تعتقد السلطات أنهم يعارضونها، وينتمي هؤلاء لمختلف فئات المجتمع السوري، ويغلب عليهم المتظاهرون والمعرضون المخضرمون، والمدافعون عن حقوق الإنسان، والصحفيون، والأطباء، وعمال الإغاثة الإنسانية، والطلبة، … ويتابع .. سجن صيدنايا هو المكان الذي يتم فيه الإجهاز على الثوار، (المحتجزين على ذمة الثورة )”.
وفي تقرير منظمة العفو الدولية عام 2017 المعنون باسم “المسلخ البشري” ونتيجة لتحقيقات استمرت 12 شهراً، أفادت المنظمة بتنفيذ حكم الإعدام شنقاً من قبل السلطات السورية بحق الآلاف من المعتقلين في سجن صيدنايا، خارج سلطة القضاء، الذين اعتقلوا بعد آذار العام 2011 ، مع إخفاء كافة بياناتهم ومصيرهم عن ذويهم.
ومن الجدير بالذكر بأنَّ المعتقلين الموقوفين لصالح محكمة الميدان العسكرية، والذين يتم تنفيذ حكم الإعدام بحقهم في سجن صيدنايا، يخضعون لمحاكمة أمام محكمة الميدان العسكرية أولاً، وهي محكمة تتسم محاكماتها وقوانينها بالإيجاز والتعسف، ولا يمكن اعتبارها إجراءات قضائية فعلية، حيثُ تشكلت محكمة الميدان العسكرية في سوريا، بموجب المرسوم التشريعي رقم /109/ لعام 1968 وتنص المادة الأولى منه على شمول اختصاص هذه المحكمة للجرائم المرتكبة “في أوقات الحرب أو العمليات العسكرية”.
ويقوم ضباط من الجيش بإدارة إجراءات هذه المحكمة (المادة 3)، ولا يشترط المرسوم على هذا النوع من المحاكم العمل بموجب التشريعات النافذة (المادة 5)، وتعتبر الأحكام الصادرة عنها نهائية وغير قابلة للطعن (المادة 6)، ولكن تشترط موافقة رئيس الجمهورية، ووزير الدفاع، كي تصبح أحكامها نافذة، ولهما الحق في تخفيف أو وقف تنفيذ الأحكام (المادة 8).
وبعد العام 2011 أنشأت محكمة الميدان العسكرية الثانية لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المعتقلين، ومقر المحكمتين في مقر الشرطة العسكرية في القابون، ولا يوجد أي فرق بين المحكمتين من حيث نطاق الاختصاص، ويحاكم المعتقلون في جلسة واحدة تستمر ما بين دقيقة وثلاث دقائق، مقيدي الأيدي، ومعصوبي العينين، ويكون الحكم مبنيَّأً على الاعترافات المُنتزعة تحت التعذيب، وتتفاوت الأحكام بين السجن المؤبد والإعدام، ولا يسمح للذين تتم محاكمتهم أمام المحكمة الاتصال بالمحامي، أو الاطلاع أو معرفة تفاصيل الحكم الصادر بحقهم.
يسعى النظام السوري من خلال إصدار شهادات وفاة، لمعتقلين لديه بعد إخفاء مصيرهم لسنوات، بعد إنكاره اعتقالهم، لطمس معالم أفظع الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السورين وبحق الإنسانية عموماً، وذلك عبر إيجاد غطاء قانوني بموت المعتقلين لأسباب طبية، في محاولةٍ للرد بصيغة قانونية من وجهة نظر النظام عن الملفات التي يتم تحريكها ضده دولياً، وخصوصاً بعد إصدار مذكرات توقيف من القضاء الأوروبي بحق عدد من أصحاب القرار في النظام السوري بسبب مسؤوليتهم عن جرائم الإخفاء القسري، والتعذيب، والموت تحت التعذيب في معتقلات النظام، ومن جهة ثانية بعد قبول روسيا تصدر ملف المعتقلين ملفات اجتماع أستانة القادم، فكان أن بادر النظام للكشف عن مصير المعتقلين بهدف إعاقة أي قرار دولي للكشف عن مصيرهم، وهذا ما يُضعف ملف المعتقلين سياسياً، ويجعله ملفاً سورياً داخلياً يورط به بعض رموزه وعناصره ممن انتهت صلاحيتهم لديه، وهي سياسته المعتادة في الهروب من المساءلة الدولية في كثير من الملفات المتورط بها سابقاً.
لا أظن بأنَّ النظام السوري يغفل خطورة هذا الإعلان عن مصير المختفين في سجونه، وما سيترتب عليها من أدلة إدانة جديدة بحقه في جرائمه التي يرتكبها اتجاه شعبه خصوصاً في الأعوام السبعة المنصرمة، فتواريخ الوفاة الموجودة في أغلب شهادات الوفاة المُصدرة مؤخراً، تتطابق من الشهادات الموجودة عن تنفيذ الانتهاكات والإعدامات بحق المعتقلين، وهذه الشهادات موثقة في كثير من التقارير الدولية، وتتطابق مع التواريخ المذكورة في هذه الشهادات، وخصوصاً بأنَّ هذا الإعلان من قبل النظام يستهدف المعتقلين في الفترات الأولى من عمر الثورة، أي الناشطين السلميين، وأنهُ غيبهم وأخفى مصيرهم لسنوات في سجونه، ولكن النظام يعتمدُ كما اعتمد سابقاً على ميوعة المجتمع الدولي في تعاطيه مع انتهاكات وجرائم النظام السوري بحق شعبه وبحق الإنسانية، لذلك لم يستطع هذا المجتمع الدولي رغم كل الأدلة الدامغة على استصدار أي قرار مُلزم بحق النظام طيلة السنوات الماضية، وهذا ما يذهب إليه النظام.
تبقى الثورة السورية، قضية السوريين وحدهم، لا رهان على أي فعالية من المجتمع الدولي، فالقرارات الملزمة دولياً، تبقى قرارات سياسية بحتة، بعيدة كل البُعد عن العُمق الإنساني والأخلاقي، مهما كان ثمن تعطيل هذه القرارت كبيراً من جهة الشعوب المضطهدة، الرازحة تحت دكتاتورية مُتفق عليها دولياً، ومتوافق على بقائها وإعادة إنتاجها سياسياً لتبقى مُحققةً لأقطاب العالم المتحضر اقتصادياً وليس أخلاقياً، سوقاً عسكرياً، وبيضة قبَّان جيدة في أي اتفاقات دولية مستقبلاً.
والضوء الوحيد في كل هذا السواد، بأنَّ النظام السوري، قد أوجعهُ الحراك القانوني في الأعوام الثلاث الأخيرة، ليضطر لكل هذه المخاضة العلنية في الدم السوري، لتأمين غطاء قانوني لجرائمه، وهو ما يجعلنا في هذا الإطار على الطريق الصحيح، رغم كل هذا الإجرام في السياسة الدولية والتي شاركت النظام السوري في ذبحنا بإبقائه قائداً لمسيرة التدمير والتهجير والقتل تحت التعذيب، وهذا ما يُحتم علينا الاستمرار بالمطالبة والمتابعة القانونية والحقوقية لكل ملفات الثورة وعلى رأسها ملف المعتقلين، وإحراج المجتمع الدولي في كل بقعة من هذا العالم، في الداخل السوري وفي دول اللجوء، فكل تحرك يمكن أن يُنقذ معتقلاً أو يكشف مصير مختفٍ قسرياً من أبنائنا.
عذراً التعليقات مغلقة