هذا العنف المشترك الذي يقسمنا!

عمر الشيخ29 يوليو 2018آخر تحديث :
هذا العنف المشترك الذي يقسمنا!

لقد ازداد المجتمع السوري تعنيفاً ودموية مع تقادم العمل العسكري وفوضى السلاح وتزايد الضغائن بوجود المليشيات الأجنبية على الأرض، ومع تقلص فرص الحوار السياسي المشترك بثقة متبادلة بين النظام والمعارضة، تجذّر في الحرب السورية خطاب العنف بدراجة لا توصف من شدة قسوتها، ذلك أن النظام لم يكن يفكر للحظة أنه من الممكن مناقشة معارضين لمنظومته الأمنية، وأجهزته القمعية، إلا بالبندقية والدبابات والطيران الحربي والسلاح الكيماوي.

ومنذ الصغر رسّخت هذه المنظومة الفكر والمعتقد العسكري لتجند المجتمع من أجل خدمة الطاغية، ولا أحاديث تذكر عن التشاركية في السلطة على الإطلاق، لا مشاريع اقتصادية دون شراكة الأسد، لا مشاريع تعليمية خاصة وعامة دون ربح القائد، لا صراع سياسي تحت الضوء خارج خطاب “البوط العسكري”، فالعصابة لا يسرّها أن يدخل أي أحد لم يجري في دمه سُمّ الفساد وأنزيمات ذلّ الشعب قدر المستطاع، وكانت -أي العصابة- مشغولة بتجويع الناس لشتى أنواع الغذاء، الفكري والإنساني والأخلاقي والسياسي… كان النظام يعتبر تجنيد الشباب في معسكرات طلائع وشبيبة واتحاد طلبة “البعث” في مراحل التعليم “خير” الحلول في الهيمنة عليهم، ولكن ذلك كان قبل ظهور التقنيات التي بسّطت المعرفة والعلم ما دفع لتبصّر عقول ملايين السوريين لانتزاع حريتهم وحقوقهم من عصابة السلطة وطغيانها، ولكن لم يكن هناك أدوات سوى العنف الذي تربّوا عليه! وهذا ما عقّد المسألة وجعل القاموس الدموي للتفرقة بين السوريين أبرز دليل على أن الثورة لا تزال في بدايتها!

عندما قتل النظام السوري، الطفل حمزة الخطيب، لأنه لم يكن مثل باقي قطيع الأطفال السوريين، وثار بعفوية ضد الأسد، فسحقه هذا الأخير ولم ينساه، ثم اعتبر أن ذلك سوف يمر كما جرائمه المستمرة بحق السوريين، لكن الطفل تحول إلى أيقونة، لأنه رفض أبوة الطغيان، وتداولت صوره وقضيته آلاف الصفحات والمنابر الإعلامية والحقوقية، كان مشهد جثته بعد التعذيب والقتل، مأساوياً، كل ذلك يفسر ذهنية هذه “السلطة” ذات العنف المطلق، لا تفرق بين صغير وكبير، ما لم ينحني للجزار.

ولعل أول ما كان يشغل قوات الموت المتقدمة برفقة القوات الروسية والميليشيات الإيرانية الطائفية، عند اجتياح درعا وريفها مؤخراً، هو الوصول إلى رموز الثورة والقضاء عليها، التنكيل بمعناها التاريخي، فحطم الاجتياح قبر “حمزة الخطيب” إلى جانب مئات البيوت وتهجير الآلاف قبل أن تصبح المدينة تحت يد روسية.

لم تهتم صفحات إعلام النظام وقتئذ سوى بمسح معالم التاريخ السلمي للثورة السورية، وقتل كل ما يمثل إنسانيتها قبل شتات العسكرة وأمراض الفصائلية.

أبرمت روسيا المصالحات الفاسدة، أبرمت بين النظام والمعارضة، اتفاقيات الهزيمة، ولم يتغير شيء في تلك البلاد سوى أن العنف أخرج لغته السورية التامة فيما بين الشعب الواحد.

استثمرت روسيا العنف النامي في قوات المعارضة، لتجعلهم أداة تقاتل بها تنظيم الدولة وتهجر فيها “هيئة تحرير الشام” النصرة شمالاً، حسب ما تزعم، ولكن فيما بعد، عندما تنضج القسمة الإقليمية، سوف تخفيهم جميعاً، سوف تخفي كائنات (النصرة وداعش والفصائل والمصالحات) هؤلاء الذين رضعوا حليب العنف حسب ما يريد الطاغية.

ومنذ أيام توفيت الفنانة “مي سكاف” المعروفة بموقفها المعارض لنظام الأسد وحاشيته، لم تكن هذه المرأة مجرد شخصية معارضة. هددتها مخابرات الرعب في دمشق، فهربت من أنيابهم لتنقل صراخ المظلومين، وعاشت في باريس محاولة تقديم ما تستطيع من خطاب عقلاني بعيداً عن عنف الفصائل وأسلمة الثورة، كانت أقرب ما يكون للنبض الأول الذي دفعها مع العشرات من زملائها إلى مظاهرة المثقفين منذ بدايات الثورة وسط حي الميدان بدمشق (13/7/2011)، دون خوف من مخالب التهديد والوعيد.

أصاب رحيل “سكاف” الجميع بالذهول والحزن، ما دفع بعض الفنانين في الداخل السوري لنعيها، وأيضا بعض من هم خارج سورية وليس لديهم أي مواقف واضحة من الصراع الدائر في بلدهم، نعوها بكل قداسة الموت الذي سوف يختم حياتنا مهما كانت الظروف والمواقف، هكذا فعلت الفنانة “أمل عرفة” حيث نعت زميلة دراستها “مي” ولكن وحوش الموالاة الذي ينام في قلبهم الأسد وإجرامه، لا يعرفون كيف يكون احترام الآخر ورأيه، انهالوا عليها بالتهديد والشتائم! وهل تعتقد “عرفة” أنها وعشرات من لديهم مواقف إنسانية تفصل الموقف السياسي عن الظروف الذي يعيشه صاحب الرأي المخالف لنا، هل تعتقد أنها تعيش وسط بيئة معافاة؟ أليست هذه بيئة البعث المجرم، أليست هذه نتائج التربية العسكرية التي زرعها الأسد في قلوب وعقول الأجيال؟ وأليس آلاف الجنود المساكين من كل الطوائف مدفوعين بقوة السلاح لأن يسوقهم إلى حربه، ويقدمهم إلى المجزرة من أجل بقائه في الحكم؟ هل يعتقد من في الداخل السوري أن السلطة لو تنفّست قليلاً فقط، رغم كل التحكم والذل الإقليمي الذي تدفعه لروسيا وإيران وإسرائيل، أنها سوف تتغير خطوة نحو الإنسانية والعدالة؟ بالطبع: لا!!

إن العنف الوراثي الذي تم تنميته وتخصيبه في الحياة السورية منذ بداية حكم الأسد، لن يزول بعنف مضاد، ولن تنفع معه أدوات الحلفاء الذين أصبح اسمهم “الدول الضامنة” تلك التي تتقاسم المناطق السورية بعد أن جعلت من الثورة السورية سياجاً سياسياً لخطابها المزعوم أمام الرأي العام.

عنف البلاد هناك، معقود حول عقولنا وأفكارنا أينما نذهب، على مختلف مستويات المعرفة الذاتية والعلم والاطلاع على المجريات، سواء أكان أحدنا سياسياً أو عسكرياً أو كاتباً أو عاملاً أو موظفاً أو معارضاً أو موالياً أو حيادياً… على اختلاف مشاربنا الفكرية والاجتماعية، نحن نمتلك بذرة عنف لا مثيل لها في الكوكب على ما أظن، وكمية الضغينة المقابلة لمن لا يشبهنا، قد تدفعنا لقتله بأي وسيلة حتى لو كانت على مستوى افتراضي “بلوك”.. هذه هي تربية البعث وعسكره!

وبالعودة للبداية، تحطيم قبر طفل لأنه رفض الأسد، وإطلاق النار على أفكار، مجرد أفكار، للتعزية بفنانة رفضت القتل! وكلما كتبنا في محاولة لقراءة هذه الانقلابات الكارثية، يخرج علينا من لازال يعتقد أن هناك موالاة ومعارضة في سورية! لم يعرف أننا تحولنا لوحوش مقسمة حسب إمكانياتنا العقلية والثقافية والعسكرية، كل حسب معتقده وصالحه الشخصي، بات الوقوف أمام مسألة تفكيك العنف أوّل أهداف الثورة السورية التي لن تنتهي قبل إحلال العدالة والحرية ووحدة البلاد ضد كل الدول “الضامنة”.

هذا العنف المشترك الذي يقسمنا، لن يزول ما لم تزرع فوقه الثقة والتفاهم، وما لم تتوقف مجازرنا اللعينة من بلدان اللجوء، شأن الرجل السوري الذي قتل زوجته وبث الجريمة على فيسبوك. وصولاً إلى وسط المدن السورية الحزينة التي ترتفع شواهد ضحاياها اليوم من أقبية الظلم تحت إمضاء “السكتة القلبية” لآلاف السوريين هؤلاء الذين هتفوا “حرية للأبد”!

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل