صادق مجلس الشعب السوري(1)، في السابع والعشرين من مارس/آذار 2018، على العقد رقم (66) بين “المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية” التابعة لوزارة النفط السورية من جهة، وشركة “ستروي ترانس غاز” الروسية من جهة أخرى، والذي ينص على إعطاء الأخيرة حق استثمار واستخراج الفوسفات في منطقة مناجم الشرقية (45كم جنوب غرب تدمر) ضمن قطاع يبلغ الاحتياطي المثبت فيه 105 ملايين طن، وبحسب العقد تكون نسبة الجانب السوري 30% فقط من الإنتاج، بالإضافة لـ 2% كمقابل لقيمة أجور الأرض والتراخيص ونفقات إشراف المؤسسة والضرائب والرسوم الأخرى، وسيتم الإنتاج بمعدل 2.2 مليون طن سنويًّا لمدة خمسين عامًا، أي حتى استهلاك كامل الاحتياطي في هذا القطاع.
يعتبر هذا العقد نموذجًا لاستخدام النظام السوري الموارد والثروات السورية كوسيلة لتسديد ديونه لحلفائه (روسيا وإيران) عبر توزيعها على شكل عقود استثمار طويلة المدى وبشروط مجحفة بحق سوريا، وذلك بعد التقدم الذي أحرزه بمساعدتهم على الأرض وميل الكفة العسكرية لصالحه في الصراع على حساب المعارضة، وبخاصة في العام 2017 والذي شهد سيطرة النظام على البادية السورية وأجزاء من دير الزور، والتي تحتوي على النسبة الأكبر من الثروة الباطنية السورية (النفط والغاز والفوسفات)، كما يُعتبر هذا العقد استكمالًا لهيمنة موسكو على استثمارات الطاقة في سوريا على حساب طهران، والتي كانت تنظر إلى الفوسفات السوري كجزء من نصيبها في سوريا لتعويض التكاليف التي تكبدتها في دعم نظام بشار الأسد؛ حيث كانت إيران قد تلقت وعودًا من النظام السوري في مطلع العام 2017 بتسديد قروضها (خطوط الائتمان) عبر إنشاء شركة مشتركة بين الطرفين تشرف على استخراج الفوسفات السوري وتصديره عبر طهران. وعليه، تسعى هذه الدراسة إلى مناقشة آثار هذا العقد كنموذج لتبديد الثروة السورية على المدى الطويل من ناحية، وكمقدمة للصراعات التي قد تتكشف مستقبلًا بين حلفاء النظام حول الاستحواذ على الموارد والهيمنة الاقتصادية على سوريا، خاصةً مع قرب انتهاء العمليات العسكرية في سوريا وما قد يحمله ذلك من انفراط عقد التحالف الروسي-الإيراني في سوريا.
تحتل سوريا المرتبة الخامسة عالميًّا على قائمة الدول المصدِّرة للفوسفات حتى العام 2011، ويُمثِّل خام الفوسفات في سوريا المرتبة الثانية من حيث الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية بعد خامات النفط والغاز الطبيعي بالنسبة إلى الموارد الباطنية المعدنية وشبه المعدنية، وهو على الرغم من التطور الذي حصل في عمليات الاستكشاف والإنتاج؛ إلا أنه ما زال دون المستوى المطلوب من حيث الدراسات والاستكشاف والإنتاج والتصنيع والتصدير، فالاحتياطي الموثوق به يُقدَّر بملياري طن، إلا أن كميات الإنتاج ما زالت دون الـ3.5 ملايين طن سنويًّا(2)، ويتوزع خام الفوسفات في سوريا على المناطق التالية(3):
1- السلسلة التدمرية (خنيفيس والشرقية والرخيم).
2- منطقة الحماد (الجفيفة والثليثاوات والسيجري والحباري).
3- المنطقة الساحلية (عين ليلون وعين التينة وقلعة المهالبة وحمام القراحلة).
وتعتبر مناجم السلسلة التدمرية، وبخاصة خنيفيس والشرقية، هي الخزان الأكثر أهمية وجدوى اقتصادية من حيث ثخانة طبقة الفوسفات، والتي تتراوح بين 10-12 مترًا وقد تصل إلى 20 مترًا في منطقة الشرقية، ومن حيث النوع؛ إذ تبلغ نسبة خامس أكسيد الفوسفور فيها من 28-34%، في حين لا تتجاوز في الفوسفات المستخرج من باقي النقاط 18-22%(4):
أ- مناجم خنيفيس: تقع على طريق دمشق/تدمر إلى الجنوب من تدمر بـ75 كم وتحتوي على منجمين (شمالي وجنوبي)، وعمليًّا توقف الإنتاج في المنجم الجنوبي بعد استخراج معظم الخامات المناسبة من الناحيتين: الاقتصادية والمنجمية، أما ما بقي في المنجم الشمالي من احتياطيات فتعتبر قليلة، ولا تتجاوز الـ 24 مليون طن(5).
ب- مناجم الشرقية (الصوانة): تقع إلى الشمال الشرقي من منطقة خنيفيس بـ30 كم على يمين طريق دمشق/تدمر بنحو 5 كم فقط، وتحتوي على منطقتي استخراج (A-B)، وتعتبر مناجم الشرقية الأكثر أهمية على الإطلاق في سوريا، من حيث الاحتياطيات الكبرى والتي تقدر بـ1.8 مليار طن(6)، ومن حيث قرب الفوسفات المستخرج منها للمواصفات العالمية؛ إذ يُستخرج من مناجم الشرقية فوسفات رطب من الدرجة السادسة في حين أن فوسفات خنيفيس هو رطب من الدرجة الثامنة(7)، ويجري معالجته للوصول إلى فوسفات رطب من الدرجة الرابعة طبقًا للمواصفات العالمية.
وعلى الرغم من الاحتياطي الكبير من الفوسفات في مناجم الشرقية وخنيفيس؛ إلا أن طاقة الاستخراج في سوريا تعتبر متدنية بشكل عام؛ حيث بلغت في أوج ذروتها خلال العامين 2006 و2010 ما يقارب 3.5 ملايين طن(8)، أي إنها لم تزد على 0.17% من الاحتياطي، وتمثل هذه النسبة أقل النسب العالمية للإنتاج، وهذا ما يمكن إرجاعه إلى تدني المستوى التقني والإمكانات الإنتاجية، بالإضافة إلى ضآلة رؤوس الأموال المستثمرة في هذا القطاع، والفشل الإداري الذي أدى إلى وجود فجوة بين الخطط الموضوعة للإنتاج والكميات المستخرجة فعليًّا؛ حيث لم تتجاوز نسبة تحقق خطط الإنتاج على مدى العقدين الماضيين الـ75% في المتوسط(9)، كما أن عملية الاستفادة من الفوسفات المستخرج تعتبر أيضًا متدنية اقتصاديًّا؛ إذ تقتصر الصناعات المرتبطة بالفوسفات في سوريا على صناعة السماد والمنظفات بالرغم من الاستعمالات الصناعية المتعددة للفوسفات في مجالات أخرى كالصناعات الغذائية والبتروكيميائية وصناعة الأعلاف الحيوانية، حيث تُظهر فروقات شاسعة بين ما يتم تصديره من فوسفات خام بدون قيمة مضافة، وبين ما يتم تصنيعه لسد احتياجات السوق المحلية من الأسمدة، ففي العام 2010 تم تصدير 3.5 ملايين طن في حين استُخدم 600 ألف طن فقط للاستهلاك المحلي، أي نسبة 15% فقط من الإنتاج(10)، وتلك النسبة تعتبر غير كافية لسد احتياجات السوق السورية من الأسمدة الفوسفاتية؛ حيث تستورد سوريا حوالي 40% من تلك الاحتياجات.
جدول يبيِّن كميات الإنتاج والاستهلاك والتصدير من مادة الفوسفات للأعوام من 1990-2006 مقدرة بالألف طن(11)
السنة | كمية الإنتاج | الكمية المُصدَّرة | كمية الاستهلاك |
1990 | 1632 | 1401 | 241.149 |
1995 | 1598 | 1438 | 250.221 |
1999 | 2126 | 1622 | 230.880 |
2000 | 2163 | 1917 | 245.135 |
2001 | 2043 | 1808 | 234.582 |
2002 | 2483 | 2260 | 222.353 |
2003 | 2401 | 2161 | 239.593 |
2004 | 2882 | 2627 | 254.358 |
2005 | 2925 | 2688 | 236.425 |
2006 | 2384 | 2072 | 229.705 |
وتتدنى طاقة تصنيع الفوسفات في سوريا كنسبة من المُصدَّر منها إلى 8.2%، كما أن نصيب الفوسفات من إجمالي الصادرات السورية لا يتجاوز 13% أما وزنه من العائدات فيبلغ 1% فقط(12)؛ الأمر الذي يجعل الفوسفات السوري ثروة وطنية فعلية غير مستغلة سواءً على صعيد حجم الإنتاج بالنسبة للاحتياطيات أو على صعيد الإنتاج والتصنيع؛ مما يفسر اهتمام حلفاء النظام، روسيا وإيران، بتلك الثروة ورغبتهما بالاستحواذ عليها كمكافأة لدعم النظام وتعويض خسائرهما في هذا الإطار، فبالإضافة إلى الأهمية الاقتصادية للفوسفات هناك الأهمية العسكرية؛ حيث يدخل الفوسفات بشكل خاص في صناعة أسلحة الدمار الشامل كغازات الأعصاب (السارين، التابون، السومان)، كما يستخدم في فصل العناصر المشعة وتنقيتها كاليورانيوم والثوريوم والموليبيديوم وغيرها(13).
ويعتبر الفوسفات السوري من الأنواع الغنية بمادة اليورانيوم المشع؛ الأمر الذي كان له أثر كبير على صادرات سوريا من الفوسفات في تسعينات القرن الماضي، وخصوصًا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أكبر المستوردين في ذلك الوقت؛ حيث تراجعت الصادرات السورية من الفوسفات من 1.6 مليون طن في العام 1990 إلى 600 ألف طن في العام 1993 نتيجة لارتفاع نسبة الإشعاع النووي المرافق له، مما دفع الحكومة السورية إلى البحث عن ممول لإنشاء معمل لغسل الفوسفات وفصل اليورانيوم المشع عنه، حيث تقدمت الحكومة في ذلك الوقت بدراسة جدوى اقتصادية للمشروع إلى “البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة” رغم تلقيها عرضًا روسيًّا حمله نائب رئيس الوزراء الروسي في ذاك الوقت، أوليغ سوسلوفيتش، إلى دمشق، في العام 1994، للمساهمة في استخراج الفوسفات وفصل اليورانيوم المشع، ولكن الحكومة السورية فضلت التعاون مع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة لإثبات حسن نواياها وإعطاء تأكيد ولو غير مباشر بأن مشروع فصل اليورانيوم المشع عن الفوسفات هو لاعتبارات اقتصادية بحتة، ومن دون أية خلفية تتصل بإمكان استخدام اليورانيوم المشع لأغراض أخرى، خاصة بعد تلقيها معلومات عن مخاوف غربية وتحديدًا أميركية، من احتمال الإفادة من مشروع فصل اليورانيوم المشع عن الفوسفات لأغراض أخرى عسكرية، الأمر الذي أدى إلى عرقلة تنفيذ المصنع مع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة(14). ويدل هذا، لاسيما اليوم، على أن موسكو تجد في حاجة النظام السوري لدعمها فرصة مواتية لإحياء مطامعها القديمة في الفوسفات السوري وما يحتويه من يورانيوم، وكذلك طهران ذات الطموحات النووية. فروسيا تحتل المرتبة الثالثة عالميًّا من حيث احتياطيات اليورانيوم بـ506 آلاف طن، لكنها لا تزال في مركز متأخر من حيث الإنتاج والتصدير أمام كازاخستان وكندا وأستراليا؛ لذا فقد يعزز استحواذها على المصادر المحتملة لليورانيوم في سوريا، موقعها التنافسي كمنتِج عالمي لهذه السلعة النادرة عالميًّا، والتي تدر تجارتها مليارات الدولارات سنويًّا؛ حيث بلغت صادرات موسكو منها (3)مليارات دولار للولايات المتحدة الأميركية و7.5)) مليارات دولار إلى الاتحاد الأوروبي وبلدان منطقة آسيا والمحيط الهاديفي العام 2010(15).
أما طهران، فقد ذكر تقرير نشره معهد كارنيغي واتحاد العلماء الأميركيين، في عام 2013، أن ندرة موارد إيران من اليورانيوم وقلة جودتها، ستجبرانها على الاعتماد على مصادر خارجية للحصول على اليورانيوم الطبيعي والمعالج، وأن احتياطيات إيران المقدرة من اليورانيوم لن تكفي بأية حال لتغطية برنامجها النووي المزمع(16). لكن طهران، ورغم كل المؤشرات العلمية لعدم امتلاكها احتياطيات كافية من اليورانيوم لتغطية برنامجها النووي؛ إلا أنها أعلنت، في سبتمبر/أيلول 2015، أي عقب أشهر من سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” على مناجم الفوسفات السورية، عن اكتشافها منطقة تحوي كمية ضخمة “لم تكن متوقعة” من اليورانيوم في منطقة “يزد” وسط إيران، وأن أعمال استخلاصها ستبدأ قريبًا في منجم جديد دون التصريح عن حجم الاحتياطيات التي يحتويها هذا المنجم(17). ويُمكن فهم هذا التصريح الإيراني في عدة اتجاهات منها؛ كرسالة سياسية عقب توقيع الاتفاق النووي الذي لم يعجب المحافظين في إيران، مفادها أن إيران قادرة في أية لحظة على أن تستأنف برنامجها النووي بقدرات محلية تتجاوز العقوبات المفروضة، كما أنه قد يُفهم في إطار التغطية الإيرانية على كميات اليورانيوم التي قد تستخلصها من الفوسفات السوري مستقبلًا بعد استعادة المناجم من تنظيم الدولة، وبالرغم من أن هذا الافتراض يبقى مجرد احتمال؛ إلا أن المؤكد أن أية كمية من اليورانيوم يُمكن لإيران الحصول عليها بعد معالجة الفوسفات السوري في طهران تعتبر كنزًا بالنسبة لها.
ثانيًا: الفوسفات بين موسكو وطهران (الرابح والخاسر)
سيطر تنظيم الدولة في مايو/أيار من العام 2015 على مناجم الفوسفات في خنيفيس والشرقية بعد أيام من سيطرته على مدينة تدمر(18)؛ حيث بقيت تلك المناجم تحت سيطرته لمدة عامين على الرغم من استعادة النظام لمدينة تدمر، في مارس/آذار 2016، ثم خسارته لها مجددًا لصالح التنظيم بعد ثمانية أشهر، لتشهد تلك المنطقة تدافعًا عسكريًّا من قبل حلفاء النظام للسيطرة عليها، وفق تطورات ومراحل تُبرز أهمية تلك المنطقة والصراع الاقتصادي عليها بين إيران وروسيا وحسابات النظام ما بينهما، وذلك وفق ما يلي:
1- “تحرير” إيراني: مع تغير موازين القوة على الأرض لصالح النظام عقب التدخل الروسي واستعادة الأحياء الشرقية لمدينة حلب، ومن ثم عقد اتفاقات خفض التصعيد التي أتاحت للنظام هدوءًا نسبيًّا على جبهات المعارضة وفائض قوة جرى توجيهه نحو البادية السورية كمقدمة للوصول إلى دير الزور، وهي المناطق التي تشكل خزان الثروة الباطنية السورية؛ بدأت قوات النظام مطلع العام 2017، مدعومة بميليشيات أجنبية لبنانية وعراقية يُشرف عليها ضباط في “الحرس الثوري” الإيراني(19)، حملة في ريف حمص الشمالي أفضت في مايو/أيار من ذات العام لاستعادة السيطرة على منجمي خنيفيس والشرقية من تنظيم الدولة، لتشكل تلك السيطرة مقدمة لتسليم إيران تلك المناجم تبعًا للاتفاق الذي عقده رئيس الحكومة السورية، عماد خميس، خلال زيارته لطهران في مطلع العام 2017، والقاضي بتسديد الديون الإيرانية الناجمة عن خطوط الائتمان الأربعة التي منحتها إيران للنظام، والتي تتجاوز قيمتها 5 مليارات دولار، عبر منح إيران جملة مشروعات(20) وعلى رأسها استثمار الفوسفات السوري في منطقة خنيفيس، بعد تأسيس شركة مشتركة لهذا الغرض تشرف على الاستخراج وتصدير الإنتاج إلى طهران(21)، وبناءً على هذا الاتفاق،أُطلقت العمليات العسكرية لتحرير البادية وصولًا إلى مناجم الفوسفات.
2- استيلاء روسي: لم يلبث النظام السوري أن بدأ بالمماطلة في تنفيذ الاتفاقات الاقتصادية المعقودة مع طهران(22)، وسرَّع من وتيرة التعاون الاقتصادي وتوقيع العقود مع موسكو في ذات المجالات التي تطمح إيران للاستحواذ عليها، ففي أبريل/نيسان من العام 2017، أي قبيل شهر من استعادة السيطرة على مناجم الفوسفات (خنيفيس والشرقية)، وقَّع النظام عقدًا مع “STNGLOGESTIC” الروسية التابعة لمجموعة “ستروي ترانس غاز”، بهدف تنفيذ أعمال الصيانة اللازمة للمناجم وتقديم خدمات الحماية والإنتاج والنقل إلى مرفأ التصدير “سلعاتا” بلبنان، حيث باشرت تلك الشركة عملها فعليًّا في يونيو/حزيران بعد أيام من استعادة السيطرة على المناجم. وعلى ما يبدو لم تُسلِّم إيران بسهولة لخسارة منجم خنيفيس وقطع الطريق عليها للاستحواذ على منجم الشرقية من قبل موسكو؛ حيث سربت مواقع إعلامية نقلًا عن مصادر خاصة أن روسيا دفعت بقوات العميد، سهيل الحسن “النمر”، المقربة منها لطرد الميليشيات الإيرانية المسيطرة على مناجم الفوسفات والاستيلاء عليها، وهو ما تم بالفعل بعد قصف شحنة فوسفات كانت تلك الميليشيات تحاول نقلها من المناجم(23)، وتتوافق تلك التسريبات مع خط سير المعارك في البادية السورية وصولًا إلى مدينة دير الزور، والتي أعقبت استعادة مناجم الفوسفات في ريف حمص الشرقي؛ حيث تولت قوات “النمر” المدعومة من موسكو المحور الممتد من ريف حماة الشرقي وريف حمص الشرقي وصولًا إلى ريف الرقة الجنوبي وهو المحور الذي تقع فيه مناجم الفوسفات وحقول الغاز والنفط الواقعة في البادية السورية، في حين تم إبعاد الميليشيات الإيرانية إلى محور الحدود السورية العراقية وصولًا إلى مدينة البوكمال في ريف دير الزور(24).
وقد يكون هذا العزل الإيراني عن محور الثروات السورية في البادية ليس ناجمًا فقط عن مطامع موسكو الاقتصادية، وإنما جزء من التفاهمات الأميركية-الروسية عقب اجتماع هامبورج بين الرئيسين، ترامب وبوتين، والتي أفضت إلى فتح الطريق أمام قوات النظام المدعومة من موسكو وطهران للسيطرة على البادية وصولًا إلى دير الزور، ثم وبعد انتهاء العمليات العسكرية ووضوح خرائط النفوذ والسيطرة بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا في البادية السورية ودير الزور (مكامن الثروة الباطنية السورية) يبدو أن موسكو قررت اللعب علانيةً مع طهران فيما يخص الموارد الاقتصادية السورية ومرحلة إعادة الإعمار التي باتت وشيكة، حيث أعلن نائب رئيس الوزراء الروسي، ديمتري روغوزين، نهاية العام 2017 أن “بلاده دون غيرها ستساعد سوريا في إعادة بناء منشآت الطاقة” وأن “في سوريا أكبر حقل فوسفات يمكن استثماره وستعمل موسكو مع دمشق لاستغلاله وتصدير إنتاجه”(25). وفي مارس/آذار 2018، اتفقت روسيا والنظام السوري على خارطة تعاون اقتصادي تتيح لموسكو إقامة استثمارات ومشاريع في مجال النقل والكهرباء والصناعات التحويلية، والغذائية والكيميائية والإنشاءات والموارد المائية، إضافة إلى صناعة الاتصالات اللاسلكية وتوريد الآليات الزراعية والتجهيزات اللازمة لقطاع النفط والكهرباء(26)؛ الأمر الذي يعني إقصاءً شبه كامل لإيران عن المكاسب الاقتصادية في سوريا، والتي من الممكن أن تعوض خسائرها، لصالح موسكو التي تحسب كل روبل جرى إنفاقه في سوريا وتبحث عن تعويضه على حد تعبير روغوزين(27).
3- إيران: الفوسفات أم المقامات؟
على الرغم من كظم الحكومة الإيرانية لغيظها من التواطؤ بين موسكو ونظام الأسد لإقصائها عن المكاسب الاقتصادية في سوريا؛ إلا أن الإعلام الإيراني لم يصمت حيال ما يجري، حيث نشرت عدة مواقع وصحف إيرانية معلومات عن الخلافات الروسية-الإيرانية على تقاسم الحصص في سوريا، ومنها صحيفة “قانون” الإصلاحية المقربة من الحكومة الإيرانية، والتي تحدثت تحت عنوان “لا شيء.. حصة إيران من سوق الشام” عن محاولات روسية لإقصاء إيران عن المكاسب الاقتصادية رغم ما تكبدته من خسائر في سوريا، مُحذرةً أيضًا من الدور الصيني المرتقب في إعادة الإعمار وتكرار سيناريو أفغانستان؛ حيث تم إقصاء طهران من المكاسب الاقتصادية. كما كشف موقع “تاباناك” الإيراني المقرب من الحرس الثوري عن “تفاهم بين موسكو ودمشق لإقامة شراكة اقتصادية تُقصَى بموجبها الشركات الإيرانية من النشاط الاقتصادي، خاصة في مرحلة إعادة الإعمار في سوريا”. وبحسب الموقع، فإن الائتلاف الاقتصادي الجديد يُلزم دمشق بالحصول على موافقة روسية إذا ما أرادت إيران الاستثمار في السوق السورية(28). ويبدو أن تلك المعلومات التي نشرها الإعلام الإيراني كان لها أثر عميق في تأجيج مشاعر الإيرانيين حول الدعم غير المحدود الذي تقدمه بلادهم لنظام الأسد؛ الأمر الذي انعكس في تصدر سوريا شعارات المظاهرات التي عمَّت شوارع المدن الإيرانية للاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية المتردية، مما حدا بالمسؤولين الإيرانيين إلى إطلاق تصريحات تتجاوز حدود الدبلوماسية تُشير إلى نية إيران استعادة كل ما أنفقته في سوريا عبر استغلال الثروات الباطنية السورية، وأن إيران لن تتنازل عن الثمار الاقتصادية لجهودها المبذولة في سوريا، ولعل أوضح تلك التصريحات جاءت على لسان المستشار العسكري للمرشد الإيراني، علي خامنئي، اللواء يحيى رحيم صفوي، والذي قال: “نحن جادون في الدفاع عن سوريا وسلامة أراضيها، لكن على النظام تسديد فاتورة التكاليف، ويوجد في سوريا نفط وغاز ومناجم فوسفات، ويمكن لهذه الثروات الطبيعية تسديد الفاتورة“(29)، أعقب تصريحات صفوي تصريحات أشد لهجة على لسان أمين مجلس تشخيص مصلحة النظام الإيراني، محسن رضائي، والذي أعلن أن بلاده “ستستعيد كل دولار أنفقته في سوريا والعراق وفي كل مكان، وأننا لو نعطي دولارًا واحدًا لأحد نقبض ثمنه ونثبِّت أقدامنا بذلك”(30). واللافت في تصريحات رضائي كان تبريره الضمني لإقصاء إيران عن استثمار الفوسفات السوري؛ حيث ادَّعى أن “إيران استخرجت من مناجم الفوسفات السورية بمقدار مساعداتها المالية لسوريا، وتحاول الاستثمار في الصناعة والزراعة في سواحل المتوسط لجني المليارات”. ولا يبدو هذا الكلام منطقيًّا؛ حيث سيطرت موسكو على مناجم الفوسفات السورية بعد أيام من استعادتها من تنظيم الدولة على يد الميليشيات الإيرانية، ولو افترضنا استمرار طهران في السيطرة على منجم خنيفيس فلن يكون إنتاج هذا المنجم كافيًا لتسديد فاتورة التدخل الإيراني في سوريا خلال أقل من عام، أي بين استعادته وتصريحات رضائي، لذلك تبدو تلك التصريحات الإيرانية مجرد محاولات لطمأنة الشارع الإيراني المعارض وتهدئة الاحتجاجات على التكاليف المتصاعدة لدعم نظام الأسد اقتصاديًّا وعسكريًّا، خاصة وأن التصريحات أثارت غضب التيار المحافظ عبر المواقع الناطقة باسمه، والتي طرحت تساؤلات حول هدف التدخل في سوريا: هل هو لحماية “المقامات أم الفوسفات”؟(31).
وبقدر ما بدت تصريحات المسؤولين الإيرانيين موجهة للاستهلاك الداخلي؛ إلا أنها حملت مؤشرات مهمة لغضب رسمي إيراني من النفوذ الروسي المتصاعد في سوريا سياسيًّا واقتصاديًّا على حساب النفوذ الإيراني؛ الأمر الذي يجعل هذا الخلاف مرشحًا للتصاعد بشكل علني مستقبلًا تحت وطأة الضغوط الاقتصادية المتنامية في الداخل الإيراني وتشديد العقوبات الاقتصادية على طهران بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وأهم من ذلك قرب نهاية العمليات العسكرية على الأراضي السورية، وما سيحمله ذلك من نهاية الحاجة الروسية للاعتماد على الميليشيات الإيرانية كقوات أرضية تخفف الفاتورة البشرية للتدخل الروسي في سوريا. فبالرغم من التنسيق والتعاون العسكري الميداني الكبير بين موسكو وطهران على الأرض السورية، والذي أفضى إلى إسقاط عدد من المناطق التي كانت تحت سيطرة قوات المعارضة؛ إلا أن تضارب المصالح بين الجانبين الناجم عن الاختلاف الكبير في الرؤى والأهداف سرعان ما ظهر في ملف التعامل مع المناطق التي تم الاستيلاء عليها، وبخاصة في حلب، ثم الموقف الإيراني من التنسيق الروسي-التركي على الأرض. وهذه الحالة من التنسيق التكتيكي بحكم الواقع بين الطرفين والاختلاف الاستراتيجي تعود إلى سببين، الأول: سياسي متعلق برغبة إيران في تحويل سوريا إلى امتداد لنفوذها ومشروعها، عبر إبقاء نظام الأسد ضعيفًا لحساب ميليشيات طائفية تتبع لها وتستحوذ على السلطة الفعلية، كما هي الحال في العراق ولبنان، في حين تتمسك موسكو بوجود نظام قوي يتبع لها يسيطر على مفاصل الدولة وليس ميليشيات، كما أن الطرفين يتنازعان على ورقة سوريا للمساومة عليها مع الغرب. أما السبب الثاني: فيتجلى بعامل التنافس الاقتصادي، فروسيا المتربعة على عرش تجارة الغاز العالمية لن تسمح لأكبر منافسيها بالوصول إلى شواطئ المتوسط وتصدير الغاز عبرها إلى أوروبا، كما أن موسكو وإن كانت ترحب بمشروع طريق الحرير الجديد وتسعى للارتباط مع طهران بسكك حديد تجارية، إلا أنها لن تسمح بأن تكمل إيران مشروعها في الوصول إلى المتوسط لتكون بذلك مركز هذا الطريق الجديد.
إن قراءة تاريخ العلاقة بين روسيا وإيران، بالإضافة لما ذُكر آنفًا يجعل من الممكن التنبؤ بمستقبل متوتر للعلاقة بينهما في سوريا، فالعلاقات الإيرانية-الروسية مرَّت بتاريخ طويل من التوتر وطابعها العام هو الحذر وعدم الثقة، وهذا عائد للمصالح الجيوسياسية والجيواقتصادية المتداخلة للبلدين، والتي تجعل العلاقة تنافسية، تتقارب بحسب الظروف الإقليمية والدولية المُهددة للطرفين، ولكنها لا ترتقي لمستوى العلاقة الاستراتيجية. حيث تُدرك موسكو جيدًا الحاجة الإيرانية لدعمها الدبلوماسي والعسكري في ملفاتها العالقة مع الغرب، وعليه، تتقارب مع طهران في تلك الملفات ضمن حدود ما يحقق مصالحها وبالشكل الذي يحفظ تفوقها وهيمنتها، وقد شهدنا ذلك في جميع حالات التقارب بين الطرفين، مثل حالة التنسيق المشترك بينهما في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى لمواجهة النفوذ الأميركي المتنامي في تلك المنطقة، ولكن بالحدود التي تضمن هيمنة موسكو على جمهوريات الفراغ السوفيتي السابقة وعدم السماح بوجود تمدد إيراني فيها. بالإضافة إلى فرض الهيمنة الروسية اقتصاديًّا أيضًا على بحر قزوين، حيث أثارت روسيا موضوع الصفة القانونية لبحر قزوين وتبنت تعريف حوض قزوين على أنه بحيرة متجددة بمياه “أنهار الفولجا”. وبناء على ذلك، فالقانون الدولي يعطيها الحق بتقاسم مياهه وثرواته بالتساوي بين الدول المحيطة به، وفق ما ينص القانون الدولي. كما استثمرت روسيا حاجة طهران لها كمخرج من عزلتها؛ لإنشاء منظمة الدول المصدِّرة للغاز بينها وإيران التي تملك ثاني أكبر احتياطي وقطر التي تملك أكبر حقل غاز في العالم وتضم أراضيها كميات من الغاز تضعها في المركز الثالث من حيث الاحتياطيات العالمية بعد روسيا وإيران، وإن خطوة إنشاء هذه المنظمة التي تضم أول وثاني وثالث أكبر احتياطي في العالم أدت إلى تقوية موقع روسيا على ساحة الطاقة الدولية، ومثَّلت وسيلة جديدة لموسكو في بسط نفوذها الدولي في مجال الغاز. أما على صعيد دعم طهران في ملفها النووي، فموسكو في ظل علاقتها المتأزمة مع محيطها الإقليمي والدولي ودخولها ركودًا اقتصاديًّا كبيرًا نتيجة للحظر الأوروبي والأميركي المفروض عليها بسبب احتلال شبة جزيرة القرم، تبحث عن أسواق وتحالفات جديدة لتسويق منتجاتها وإثبات قدرتها على بناء شراكات اقتصادية وسياسية مع دول تشاطرها الرؤى أو تمر بنفس ظروفها، فكان التركيز على إيران الطامحة إلى استغلال الاتفاق النووي للخروج من العزلة الدولية ورفع العقوبات الأميركية المفروضة عليها، وتحديث ترسانتها العسكرية المتهالكة بسبب الحظر والعقوبات الدولية(32). فالبلدان بشكل عام بينهما مخاوف وعدم ثقة، تتمثل في احتمالية عدم استمرار هذه العلاقة المتميزة مستقبلًا؛ إذ ترى موسكو أن إيران من الممكن أن تضحي بعلاقاتها معها في حال حدوث انفتاح وتقارب بين طهران وواشنطن. بالمقابل، فإن إيران تتخوف من أن تضحي روسيا بعلاقاتها معها إذا اقتضت مصالحها، وتستشهد في ذلك بصفقة منظومة صواريخ S-300التي جمدتها روسيا في العام 2010 نتيجة العقوبات الدولية، ولم تُسَلَّم للطرف الإيراني إلا بعد توقيع الاتفاق النووي في يوليو/تموز 2015(33).
ثالثًا: النتائج
من خلال المناقشة السابقة للفوسفات السوري كمورد اقتصادي، وتنافس حلفاء النظام (روسيا وإيران) للهيمنة عليه، يُمكن استخلاص نتائج تتجاوز ملف مناجم الفوسفات لتكون مؤشرات حول ما ستحمله مرحلة إعادة الإعمار في سوريا من تبديد للثروة الوطنية على يد النظام لتسديد فاتورة بقائه، وإمكانية اندلاع صراع بين الحلفاء روسيا وإيران حول الهيمنة على الاقتصاد السوري، ويمكن إجمال أبرز النتائج بالتالي:
1- يعتبر الفوسفات في سوريا ثروة وطنية حقيقية غير مستغلة بالشكل الأمثل؛ الأمر الذي يجعله أحد أبرز الموارد الاقتصادية التي يُعوَّل عليها في مرحلة إعادة الإعمار من حيث كونها مصدرًا للقطع الأجنبي عبر التصدير، وقدرتها على خلق آلاف فرص العمل عبر الصناعات المتنوعة التي تعتمد عليها.
2- الأهمية الاقتصادية للفوسفات في سوريا جعلت مناجمه تتصدر قائمة الموارد السورية التي يُمكن أن تشكِّل تعويضًا لروسيا وإيران عن تكاليف دعمها لبقاء نظام الأسد، ويُضاف إلى الأهمية الاقتصادية للفوسفات السوري غناه بمادة اليورانيوم وإمكانية استخدامه لأغراض عسكرية؛ الأمر الذي يعزز التنافس بين روسيا وإيران للاستحواذ على الاحتياطي السوري منه.
3- يُشكِّل العقد (66) نموذجًا علنيًّا لنهج النظام السوري باستخدام الموارد الوطنية لتسديد فاتورة بقائه للحلفاء، وهو ما تظهره بنود التعاقد من حيث حصص الإنتاج، فقد حازت الشركة الروسية 70%، ومن حيث مدة العقد 50 عامًا، أي حتى استنفاد كامل الاحتياطي المنجمي من الفوسفات، وتلك الصيغة التعاقدية غير مبررة؛ فإجمالي الأضرار التي لحقت بقطاع الفوسفات السوري كاملًا تبلغ 1.5 مليار دولار(34)، والشركة الروسية ستنتج من المنجم المتعاقد عليه 2.2 مليون طن سنويًّا بحسب الخطة الموضوعة، وسعر طن الفوسفات عالميًّا يتراوح بين 100-130 دولارًا، أي إن عشر سنوات فقط كفيلة بتعويض تكاليف الصيانة وإعادة التأهيل لقطاع الفوسفات كاملًا، فلا حاجة لمنح الشركة الروسية عقدًا بهذه النسب لمدة 50 عامًا.
4- سبق تسليم قطاع الفوسفات السوري لموسكو ضمن شروط مُذلة تسليم قطاعي النفط والغاز، حيث أبرم النظام السوري، في يونيو/حزيران من العام 2017، مُذكرة تفاهم مع شركة “يورو بولس” الروسية تقوم بموجبها الشركة عبر استخدام عناصر من شركة “فاغنر” بتحرير حقول النفط والغاز من تنظيم الدولة وصيانتها وتشغيلها وحمايتها مقابل حصولها على ربع الإنتاج لمدة خمس سنوات مع التزام النظام بتسديد فاتورة العمليات العسكرية للشركة(35)، حيث تُشكل تلك العقود، وغيرها مما سيتكشف في المستقبل، جريمة اقتصادية ستمتد آثارها لتطول الأجيال السورية القادمة.
5- يُقدم الصراع على مناجم الفوسفات بين موسكو وطهران مؤشرًا مهمًّا على رغبة الطرفين باستعادة كامل فاتورة دعم نظام الأسد من ناحية، وعلى أن مرحلة نهاية العمليات العسكرية في سوريا وإعادة الإعمار ستشكل بداية النهاية لعلاقة “التخادم” وليس التحالف بين الطرفين من ناحية أخرى، فالعلاقة بينهما هي علاقة اعتماد متبادل تشمل استخدام موسكو للميليشيات الإيرانية على الأرض واستفادة طهران من الدعم الجوي الروسي كغطاء لتحركاتها، إضافة للغطاء الدبلوماسي الدولي الذي توفره موسكو لطهران عبر “الفيتو” في مجلس الأمن.
6- يُلاحظ من خلال الشركات الروسية التي استحوذت على العقود في سوريا ضمن قطاعات الطاقة والثروة المعدنية (النفط والغاز والفوسفات) أن موسكو تستخدم قنوات غير رسمية لصفقاتها في سوريا المتعلقة بالطاقة، عبر رجال أعمال مقربين من الكرملين والرئيس بوتين من ناحية(36)، واستخدامها لعناصر من شركة “فاغنر” وليس لقواتها النظامية في عملية تحرير وحماية منشآت الطاقة السورية من ناحية أخرى.
7- إن مراوغة النظام السوري مع طهران في مجال تحويل الوعود ومذكرات التفاهم الاقتصادية بينهما إلى عقود ومشاريع فعلية وتسليم القطاعات الاقتصادية الحيوية لموسكو، تعكس ميل النظام بشكل أكبر نحو موسكو؛ الأمر الذي يمكن تفسيره بعدم رغبته في التورط بشكل أكبر في التحالف مع طهران والتماهي مع مشروعها في المنطقة، خاصةً في الوقت الذي تشهد فيه طهران احتمالات متصاعدة لأعمال عسكرية تجاه أذرعها في المنطقة، من قبل إسرائيل بالتحديد والسعودية، في ظل الموقف الحازم من إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تجاهها، لذا فالنظام السوري يحاول النأي بنفسه عن أي مصير قد تواجهه طهران مستقبلًا، بل أكثر من ذلك قد يوظف النظام ورقة الوجود الإيراني في سوريا بالتعاون مع موسكو للتفاوض مع الغرب والسعودية حول بقائه وإعادة تعويمه.
8- سعي موسكو للاستحواذ على الموارد الاقتصادية السورية وفق صيغ عقود طويلة الأمد، وبشروط مجحفة بحق الجانب السوري؛ يُمثل رغبة موسكو بضمان استرداد تكاليف دعمها للنظام في ظل أي سيناريو محتمل لمصيره بما فيه احتمال الإطاحة به ضمن صفقة معينة. لذا، يبدو أن موسكو ترغب باسترداد ديونها عبر مشاريع اقتصادية مُصادق عليها من قبل مجلس الشعب السوري، وعدم تسجيلها كديون على الدولة السورية، وذلك خشية اعتبارها “ديونًا كريهة”(37) وإسقاطها لاحقًا في حال تغيير النظام في سوريا.
خاتمة
يُمكن اليوم القول بأن سوريا تخضع للنفوذ الروسي؛ حيث أطبقت موسكو هيمنتها الكاملة سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا على مناطق سيطرة النظام السوري، وهذا ما سيمنحها قوة تفاوضية مع الغرب في ظل أية مفاوضات بخصوص شكل الحل السياسي، وبالتالي فإنها لن تقبل أي شكل من الحل يمكن أن يحرمها من مكتسباتها الاقتصادية في سوريا. وعليه، فإن الهيمنة الروسية على الموارد السورية أصبحت أمرًا واقعًا، وإحدى خسائر السوريين الكثيرة في ظل حكم نظام الأسد، ولذلك يُشكل الوجود الأميركي في الشرق السوري والموارد التي تقع في مناطق هذا الوجود من نفط وغاز عامل أمان للمعارضة السورية، بالرغم من أن تلك الموارد وفرص استفادة المعارضة السورية منها مستقبلًا يخضع أيضًا لمصير ميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) ومشروعها.
____________________________________
*سقراط العلو، باحث في الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية
مراجع
(1) إن نفاذ نصوص وأحكام هذا العقد يحتاج إلى تصديقه بنصوص تشريعية (قانون-مرسوم تشريعي) بموجب أحكام المادة 6/75من الدستور السوري التي نصت على وجوب تصديق عقود استثمار الثروات الباطنية بصك تشريعي.
(2) أحمد سعيد، إبراهيم، “الفوسفات السورية ودورها في التنمية الاقتصادية”، مجلة جامعة دمشق، (المجلد 26، العدد الثالث والرابع، 2010)، ص 757.
(3) عباي، محمود، الجبيلي، يوسف، “الفوسفات في سوريا”، مجلة عالم الذرة، (العدد 43، أيار-حزيران، 1996)، ص 73.
(4) أحمد سعيد، “الفوسفات السورية ودورها في التنمية الاقتصادية”، مرجع سابق، ص 758-759.
(6) عبد الرازق، عدنان، “روسيا تحكم قبضتها على فوسفات سورية 50 عامًا”، العربي الجديد، 28 مارس/آذار 2018، (تاريخ الدخول: 15 أبريل/نيسان 2018):https://bit.ly/2ufwjA8
(7) “الفوسفات السوري إلى السوق الأوروبي”، مراسلون، 7 مارس/آذار 2018، (تاريخ الدخول: 13 أبريل/نيسان 2018): https://bit.ly/2NARjKB
(9) أحمد سعيد، “الفوسفات السورية ودورها في التنمية الاقتصادية”، مرجع سابق، ص 777.
(10) “إيرادات الدولة السورية تتقلص مع خسارة موارد نفطية ومعدنية”، رأي اليوم، 28 مايو/أيار2015، (تاريخ الدخول: 15 أبريل/نيسان 2018): https://bit.ly/2m58HL6
(11) أحمد سعيد، “الفوسفات السورية ودورها في التنمية الاقتصادية”، مرجع سابق، ص 775-776.
(14) ياسين، كريم، “الفوسفات السوري: تطويره مشكلة اقتصادية وفصل اليورانيوم المشع مشكلة سياسية”، مجلة الوسط، (15 أغسطس/آب 1994)، ص 39.
(15) “حجم توريدات اليورانيوم الروسي إلى الخارج شكَّل العام الماضي أكثر من 10 مليارات دولار، 21 يناير/كانون الثاني 2010، روسيا اليوم، (تاريخ الدخول: 19 مايو/أيار 2018):https://bit.ly/2zjoIWU
(16) “إيران تقول إنها اكتشفت احتياطيات ضخمة من اليورانيوم”، رويترز، 12 سبتمبر/أيلول 2015، (تاريخ الدخول: 19 مايو/أيار 2018): https://bit.ly/2KWt3E
(18) “تنظيم الدولة يسيطر على أحد أكبر مناجم الفوسفات في سوريا”، عربي21، 25 مايو/أيار 2015، (تاريخ الدخول: 16 أبريل/ نيسان 2018):https://bit.ly/2KWt3E
(19) “ميليشيات تدعمها إيران تقترب من أكبر مناجم الفوسفات السورية”، عنب بلدي، 25 مايو/أيار2017، (تاريخ الدخول 20 أبريل/ نيسان 2018). https://bit.ly/2uljFjk
(20) بالإضافة إلى الفوسفات تضمنت العقود خمسة آلاف هكتار من الأراضي الزراعية ورخصة تشغيل الهاتف المحمول، وخمسة آلاف هكتار لإنشاء المستودعات والمحطات النفطية وحقل زاهد لتربية الماشية والأراضي المحيطة.
(21) “عقود إيرانية مع نظام الأسد لإنتاج الفوسفات وتشغيل المحمول”، العربي الجديد، 17 يناير/كانون الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 15 أبريل/نيسان 2018):https://bit.ly/2KVYA9e
(22) “صحيفة إيرانية تتحدث عن “صراع حصص” مع روسيا في سوريا”، الشرق الأوسط، 19يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 13 أبريل/نيسان 2018):https://bit.ly/2KIYRwT
(23) “هكذا طردت روسيا “ميليشيات إيران” من مناجم الفوسفات في سوريا”، أورينت نيوز، 17 مارس/آذار 2018، (تاريخ الدخول 16 أبريل/نيسان 2018):https://bit.ly/2L1EYxt
(24) للمزيد حول محاور معركة البادية، انظر: العلو، ساشا، “الصراع على سورية “غير المفيدة” بادية الشام كمدخل لمعركة دير الزور”، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 29 أغسطس/آب 2017، (تاريخ الدخول: 13 أبريل/نيسان 2018): https://bit.ly/2x3rcpD
(25) “روسيا تقصي إيران من قطاع الفوسفات في سوريا”، عنب بلدي، 18ديسمبر/كانون الأول 2017، (تاريخ الدخول 15 أبريل/نيسان 2018): https://bit.ly/2u4JjcJ
(26) “مزيد من المشاريع الاقتصادية لروسيا في سوريا يمنحها حضورًا واسعًا في إعادة الإعمار”، موقع السورية نت،1مارس/آذار 2018، (تاريخ الدخول 13 أبريل/نيسان 2018):https://bit.ly/2m2bVPa
(27) صرح نائب رئيس الوزراء الروسي، ديمتري روغوزين، بأن “قطاع الأعمال الروسي في سوريا يعد كل روبل، لأننا يجب ألا نفكر في مصلحة البلدان الأخرى فقط، حتى لو كانوا من الأقرباء والأصدقاء، ولكننا يجب أن نفكرالآن كيف نكسب الأموال لميزانياتنا، ولمواطنينا والناس والذين ينتظرون أيضًا أي مكاسب من العمل الكبير لروسيا في سوريا”.
(28) “صحيفة إيرانية تتحدث عن “صراع حصص” مع روسيا في سوريا”، مرجع سابق.
(29) “صفوي للأسد: أنقذناك وعليك دفع الفاتورة”، موقع اقتصاد، 18 فبراير/شباط 2018، (تاريخ الدخول: 15 أبريل/نيسان 2018): https://bit.ly/2J6S8Y7
(30) “مسؤول إيراني: سنستعيد كل دولار أنفقناه في سوريا والعراق”، العربية نت، 2 مارس/آذار 2018، (تاريخ الدخول: 15 أبريل/نيسان 2018): https://bit.ly/2MYh5r4
(31) مجيد الأحوازي، محمد، “موقع إيراني يسأل: قتالنا بسوريا لأجل الفوسفات أم المقامات؟”، عربي21، 22 فبراير/شباط 2018، (تاريخ الدخول 17 أبريل/نيسان 2018):https://bit.ly/2J4Drew
(32) صديق عبد الله، معتصم، “إيران وروسيا بعد الاتفاق النووي”، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، 8 أبريل/نيسان 2017، (تاريخ الدخول: 17 أبريل/نيسان 2018):https://bit.ly/2Jbpfdu
(34) “شركة روسية تستثمر أكبر مناجم الفوسفات في سوريا”، وكالة سبوتنك الروسية، 4 يوليو/تموز 2017، (تاريخ الدخول: 18 أبريل/نيسان 2018): https://bit.ly/2zmIbpX
(35) “شركة روسية خاصة تحرر حقول النفط في سورية”، العربي الجديد، 27 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول 18 أبريل/نيسان 2018). https://bit.ly/2m28Crj
(36) شركة “ستروي ترانس غاز ” الروسية التي استحوذت على عقود الفوسفات في سوريا بالإضافة إلى عقود لإنشاء محطتين لمعالجة الغاز مملوكة بنسبة 31% من أسهمها لرجل الأعمال الروسي، غينادي تيمشنكو، المقرب جدًّا من الرئيس بوتين، وأحد الذين فرضت عليهم واشنطن عقوبات على خلفية الأزمة الأوكرانية، للمزيد حول غينادي تيمشنكو. انظر: “ما الذي تعرفه واشنطن عن ثروة بوتين النفطية؟”، رويترز، 23 مارس/ آذار 2014،(تاريخ الدخول: 18 أبريل/نيسان 2018).https://bit.ly/2m5jEMH أما شركة “يورو بوليس”، فيملكها يفغيني بريغوجين المعروف في أوساط الأعمال الروسية بأنه “طبَّاخ بوتين”، كونه أصبح مليارديرًا بسرعة فائقة، بعدما كان متعهدًا لتقديم الوجبات إلى حفلات الكرملين، واللافت أن شركة “يورو بوليس” تأسست قبل بدأعملها في سوريا بستة أشهر فقط، وللمزيد حول الشركة وصاحبها. انظر: “طبَّاخ بوتين” يستحوذ على ربع نفط سوريا”، عنب بلدي، 29 يونيو/حزيران 2018، (تاريخ الدخول: 18 أبريل/نيسان 2018): https://bit.ly/2ud65y4
(37) إذا حصل نظام استبدادي على قرض، ولم يكن الهدف منه تلبية حاجات ومصالح الدولة، وإنما تقوية هذا النظام الاستبدادي وقمع السكان الذين يحاربون هذا الاستبداد؛ فإن هذا الدَّيْن يعتبر كريهًا، وهوغير ملزم للدولة، إنما هو محسوب على النظام المستبد باعتباره دَيْنًا شخصيًّا، وبالتالي فهو يسقط بسقوطه. للمزيد حول مفهوم الديون الكريهة قانونيًّا. انظر: “الشبكة الدولية من أجل إلغاء الديون غيرالشرعية”، (تاريخ الدخول: 18 أبريل/نيسان 2018):https://bit.ly/2KX6A9S
- تقرير صادر عن: مركز الجزيرة للدراسات
عذراً التعليقات مغلقة