ليس عيباً في السوريين جهلهم بقواعد المكان والقيمة الاستثنائية و الاستراتيجية للوطن الذي يعيشون فيه، وهم المغيبون قسراً وعن سابق قصد وتصميم وبإرادة فاعلين كثر في الإقليم ووراء المحيط عن أي معرفة جيوسياسية تحكم القواعد الزمانية والمكانية لمنطقة شرق المتوسط، وجهلهم بالعمق الحضاري والتاريخي لهذه الرقعة المهمة والمؤثرة في كل محيطها وفي كافة الاتجاهات.
ليست فقط قواعد المكان هي وحدها التي كانت عائقاً أمام إمكانية الفوز في ملحمة الكرامة التي خاضوها بكل بسالة ونيابة عن كل الأمة وعن كل الإقليم من عرب وعجم، والتي طالما تاق لها السوريون الذين رضخوا بفعل ترتيبات وتفاهمات عابرة للقارات لأسوأ حكم ديكتاتوري شمولي أهلك وعلى مدى عقود خلت كل حرث ونسل لهم وكل أمل في أن يتبوأوا المكانة التي يستحقونها، وهم أصحاب الإرث الحضاري والتاريخي الموغل في المدنية والتميز على مدى آلاف السنين وقدموا للبشرية أبجديتها الأولى وبواكير علومها وإبداعها الثقافي.
وكانت هناك أيضاً مشاكل زمنية تتعلق بالتوقيت الذي لم يختاره السوريون بتخطيط وترتيب مسبق، وإنما فرضته حالة النهوض العام التي اجتاحت بلدان ما يسمى بالربيع العربي، وتمثلت المشكلة الزمنية في طموح جامح لدى روسيا وايران لفرض وقائع جديدة تتعلق بالتوسع والأحلام الامبراطورية والسيطرة بالقوى الناعمة والخشنة على مساحات وعقد استراتيجية تحقق لها مزيداً من السيطرة والنفوذ.
وترافق كل ذلك مع حالة انكفاء وتقوقع استراتيجي للغرب وحالة وهن وتخبط لدى عربان الخليج وقلق وترقب لدى “اسرائيل” مما سينتج عن حركات التمرد التي تحيط بها من كل جانب، ومدى تأثير ذلك على أمنها وديمومة تفوقها وتميزها في منطقة الشرق الأوسط وحوض المتوسط.
لقد كانت الثورة السورية على مشاكلها وافتقادها للقيادة الموحدة والعمق الفكري والسياسي جامحة بما يكفي لإخافة كل هؤلاء، وكلٌ لأسبابه الداخلية والخارجية والمصلحة الاستراتيجية التي يظن أنها تهدده وتؤثر في توازنات لطالما كانت ثابتة وراسخة بما يخدم مصالح السادة ومصالح العبيد على امتداد الخريطة العالمية.
ولم يجد هؤلاء حلاً إلا بالاجتماع ككتلة واحدة ولهدف واحد بتوصيف هذه الثورة ومريديها وبنيتها الاجتماعية الحاضنة كـ”عدو” يتهدد السلم والأمن في المنطقة، ففعّلوا كل دهائهم وأجهزتهم للكيد لها وحرفها عن أهدافها وغاياتها، وتوجيه يد موحدة لها تتهمها بالإرهاب والانحراف والتّفلت من بيت الطاعة الذي فرضته قواعد القوة والنفوذ المادية المتحكمة في مصير العالم منذ قرون خلت، فأوغلوا فيها فساداً وإفساداً وفي جمهورها تنكيلاً وتهجيرا.
أخطأ السوريون كثيراً في قيادة الدفة الثورية التي أداروها جميعاً، ثم اختلفوا على اتجاهها وقبطانها واعتقادها، ولكن ما يسجل لهم أنه لازال في عمرهم بقية، وفي أرواحهم رمق، وفي وجدان الكثير منهم أمل وحلم للخلاص من أقذر أنظمة الإرهاب التي عرفها العالم، وبمكر أجهزة وغرف ظلام ومراكز أبحاث وقوى مادية ضخمة جُيّرت للنيل منها ومن عفويتها وخوفاً من قيامة أبدية لا تراجع ولا وهن بعدها.
عذراً التعليقات مغلقة