حرب أعصاب في فرع المخابرات الجوية

محمد السلوم8 يوليو 2018آخر تحديث :
محمد السلوم
نيسان 2011؛ استدعاني قائد الكتيبة وسلّمني برقية بوجوب الذهاب إلى فرع المخابرات الجوية بحمص، قائلاً: أنت مطلوب هناك للتحقيق!

كان شهر واحد من الثورة كفيلاً بإكساب هذا الفرع سمعة قذرة جعلتني أرتعد هلعاً. وفي غرفة الانتظار المستقلّة عن المبنى الرئيسي للفرع، قضينا يومنا الأول: صيدلاني من حمص، وملازم مجنّد يحمل إجازة في الشريعة من دمشق، وأنا.

سألت الدمشقي: منذ متى وأنت هنا؟ فقال: منذ 15 يوماً. فعقّب الحمصي: كلاب، يلعبون بأعصابنا ليزيدوا خوفنا.

انقضى اليوم الأول ثقيلاً ومخيفاً، إذ لم يخبرني أحد بتهمتي، ناهيك عن وجه عنصر المخابرات الذي يقطع الرزق، والمكلّف بمراقبتنا.

في التاسعة مساء، طلبوا منا المغادرة والقدوم غداً في تمام الثامنة صباحاً. وفي اليوم التالي زدنا ضيفاً جديداً؛ كان عقيداً في الجيش من دمشق أيضاً. تعرّف إلينا واحداً واحداً، وبعد أن عرف بأمر دراستي، راح يناديني: الدكتور محمد.

أثناء حديثنا، ظهرت علامات الضيق على وجه عنصر المخابرات الموجود معنا، ولكن العقيد لم يأبه له وتابع الكلام. فجأة سأل العقيدُ عنصرَ المخابرات: معك قلم؟

أخرج العنصر قلماً من جيبه وأعطاه للعقيد الذي فكّ أزرار سترته وأخرج من عبّه كدسة من صفحات الجرائد الرسمية تحتوي كلها كلمات متقاطعة!

كان هذا تطوراً دراماتيكياً في الأحداث، فالغرفة التي من المفترض أنها لممارسة حرب الأعصاب ستصبح ساحة للتسلية. وبالفعل، بدأ العقيد بحلّ الكلمات المتقاطعة، وكان يتعمّد القراءة بصوت مرتفع لنشاركه الإجابة أنا وخريج الشريعة، فيما بقي الحمصي ذاهلاً، وربما مستغرباً جنوننا غير المألوف!

لا يمكنكم تصوّر حال عنصر المخابرات، إذ بدا أن السحر انقلب على الساحر وبات الصياد يتقلّى والعصفور يتسلّى!

العقيد: رئيس سوري راحل.

مطّ عنصر المخابرات شفتيه وبثقة أجاب: القائد حافظ الأسد.

تصنّع العقيد الصمم وكتب ناطقاً: ش ك ر ي ا ل ق و ت ل ي!

استغرب عنصر المخابرات الاسم، وكأنه يسمع به للمرة الأولى، ولسان حاله يقول: كيف تجرّأ هذا الشكري على أخذ الكرسي من القائد حافظ الأسد!

وكمحاولة للالتفاف على هزيمته، سألني قائلاً: دكتور هناك حبّات بدأت تظهر على يدي من هون، ومد يده تجاهي قائلاً: هدول مالهن دواء؟

قهقه العقيد متعمّداً وقال له: يا بني آدم الدكتور محمد دكتور بالجامعة، وليس دكتور طب بشري… يجب أن تذهب إلى دكتور جلدية ربما تكون جربانا، ابتعد عنا ابتعد! وبالكاد استطعنا ابتلاع ضحكاتنا، فيما بدا الهمّ واضحاً على وجه عنصر المخابرات.

في اليوم الثالث، طرأ تحوّل غريب؛ إذ بدأ العنصر يتحدّث معنا بأريحية، وشيئاً فشيئاً بتنا نشكّل فريقاً واحداً، حتى أنه أحضر لنا إبريقاً من الشاي!

الوحيد الذي بقي غارقاً في ذهوله هو الحمصي الذي لم يستوعب جنوننا بعد! وأقدّر أنه ظن أنّنا جميعاً مخبرون مهمتنا الوحيدة أن نوقع به كونه المدني الوحيد بيننا!

في الساعة الأخيرة من مساء ذلك اليوم اقتحم الغرفة أحد ضباط الفرع ليضبط العنصر متلبساً وهو يرينا مقاطع مضحكة على جوّاله ونحن مستغرقون في الضحك!

صرخ في وجهه وطلب منه أن يتبعه إلى الخارج، سمعنا صراخاً وشتائم، ثم حضر عنصر آخر أشدّ صلابة ويبدو أنه كان يعرف سبب وجوده جيداً!

في اليوم الرابع وبينما كان العنصر الجديد يجثم كالجبل على صدورنا، وقف العقيد فجأة في الغرفة وراح يتجوّل في أنحائها قائلاً: أففف ما هذه المزبلة! منذ متى لم تشطفوا هذه الغرفة.

وهكذا أعطى قائدنا العسكري الجديد أمراً بشطف الغرفة!

كان الإناء الوحيد المتوفر لدينا هو عبوة كوكاكولا فارغة سعة لتر واحد! فيما يبعد عنا صنبور الماء حوالي 50 متراً داخل ساحة الفرع. وبلا مبالاة سكب العقيد الماء على الأرض ومدّ العبوة فارغة إلى العنصر الجديد قائلاً: عبّيها خلينا ننظف هالنشح!

بتردّد نفّذ العنصر الطلب، ولكن العقيد أعاد سكبها على الأرض! طالباً من العنصر تكرار الأمر!

تململ العنصر وقال: اذهبوا وعبّوها بأنفسكم!

بدأنا الواحد تلو الآخر نملأ العبوة، حتى أن صديقنا الحمصي خرج عن صمته أخيراً، وسحب العبوة من يدي قائلاً: دوري هذه المرة!

نقلنا أكثر من خمسين عبوة، والعقيد مستمرّ بسكبها على جدران الغرفة وفي أرضها، ومنسوب الماء مستمر بالارتفاع. ثم نظر العقيد في وجه العنصر الذاهل قائلاً: اذهب ودبّر لنا مكنسة ومساحة لننتهي، لن نستمر هكذا إلى الغد، هيا نريد الجلوس على نظافة!

حرّك العنصر وأحضر ما طلبنا، فتنبهت إلى أن الغرفة لا تملك أي مصرف للماء، قلت للعقيد: لا يوجد بلوعة!

فقال لي غامزاً: أعلم!

ثم صرخ بوجه العنصر: لا يوجد بلوعة! اذهب ودبّر لنا معلم صحية ليصلح الوضع!

بعد دقائق حضر أحد الضباط وعاين المكان، ثم انصرف منزعجاً، ليحضر بعده شخص معه كمبريسة صغيرة ويبدأ بحفر ثقب في زاوية الغرفة ليسمح للماء بالخروج إلى الحديقة المجاورة!

أثناء ذلك باتت غرفتنا محجّاً لضباط الفرع وعناصره المندهشين، والذين لم يتوقّفوا عن التمتمة بكلمات غامضة كانت شتائم دون شك!

بعد الانتهاء من العمل الشاقّ، جلسنا في الغرفة النظيفة وعدنا لحلّ الكلمات المتقاطعة!

العقيد: مفكر سوري..

عنصر المخابرات الجديد: القائد حافظ الأسد..

العقيد غير مكترث: ا ل ك و ا ك ب ي!

تبادلنا نظراتنا الخبيثة الشامتة، فيما حملق العنصر غير مصدّق، إذ ما شأن الكواكبي بالمفكرين العظام، شخص مثله لا بد أنه يعمل بالكواكب والأبراج!

عند المغيب زارنا صديقنا العنصر القديم، مطّ رأسه من الباب قائلاً: كيف الشباب؟ خالصين اليوم إن شاء الله يا شباب!

وبالفعل تم استدعاؤنا فُرادى لمكتب رئيس الفرع، الذي ستكون لجلسته تدوينة مستقلّة!

ثمّ تسلّمنا جميعاً برقية بنهاية المهمّة، وطُلِبَ منّا أن “ننقلع” كلّ إلى قطعته العسكرية أو منزله، بعدما فشلت حرب الأعصاب، وبات وجودنا يشكّل خطراً على هيبة الفرع وسمعته العتيدة في المقاومة والممانعة!

المصدر مدونات العربي الجديد
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل