قبل أكثر من عشرين عاما، يوم كنت ناشطا في العمل الطلابي، قمنا بتنظيم حفلة للموسيقي والمسرحي اللبناني زياد الرحباني، ابن السيدة فيروز، في “الجامعة الأميركية في بيروت”. ولشعبيته، بيعت كل بطاقات حفلته في أقل من ساعة، وفتحنا أبواب كنيسة الجامعة، موقع الحفل، لمساعدي الرحباني لترتيب المسرح تقنيا.
كان تصرف الرحباني متوترا ومتعجرفا. حاول ومساعدوه مرارا فرض الفوضوية على نظام إدخال السيارات والأشخاص إلى حرم الجامعة. ليلة الحفلة، أجلسنا الحضور، وبدأت فرقة الرحباني تعزف من دونه. تأخر الرحباني، وخرجنا إلى مدخل الجامعة، فوجدناه يصرخ على رجال الأمن، بعدما أثاره طلبهم التحقق من هوية سائق السيارة (صديق الرحباني). خرج الرحباني من السيارة وهو يلوح بترخيص حمل سلاح من وزارة الدفاع اللبنانية، وطلبنا من رجال الأمن فتح البوابة على كفالتنا، وفعلوا ذلك، لكن الرحباني رفض الدخول وعاد إلى بيته، ووقفنا بخيبة أمام الحضور لإعلان تعذر إقامة الحفل.
ذهبنا، نحن المنظمون، إلى زياد الرحباني في بيته. نسخ لي شريط كاسيت عن أحد أعماله بعنوان “زياد الرحباني في الجامعة الأميركية في بيروت”، وكانت حلقة إذاعية عن مشكلة مشابهة حدثت بينه وبين أمن الجامعة قبل أكثر من عقد من حفلتنا. كان الرحباني مؤمنا أن مؤامرة أميركية تستهدفه، وأن الدليل هو تصرف أمن الجامعة ضده. وبعد أيام، تحدث الرحباني في الإعلام عن هذه المؤامرة المزعومة، وأشار إلى زيارة كانت تقوم بها وزيرة الخارجية الأميركية في حينه مادلين أولبرايت إلى بيروت، التي شتمها، واعتبر أنها وأميركا خلف التحريض ضده.
كانت تلك أولى الأحداث التي دفعتني إلى الشك بمصداقية “اليسار” اللبناني والعربي عموما، فالغالبية الساحقة من القيمين على “الجامعة الأميركية في بيروت” هم من اللبنانيين، ومعظمهم من المعجبين بالرحباني وأعماله، ولأنني كنت في عداد المنظمين، كنت أعلم أن إدارة الجامعة قامت بما يلزم، أو أكثر، لاستضافة الرحباني. كل ما حاول أمن الجامعة فعله هو تطبيق الأنظمة القائمة، مع الكثير من التساهل تجاه الرحباني.
تلك الليلة، كنت غاضبا من الرحباني، لا من الجامعة، لكن السياسة الطلابية اليسارية كانت تقضي بالانحياز للرحباني للإفادة من شعبيته، وشتم أميركا في الوقت نفسه. إحدى مساعدات الرحباني كانت تصور فيديو عن ردة فعل الحاضرين بعد انفراط عقد الحفلة. تحدثت إلي. قلت لها إن المفارقة أن للرحباني أغنية “غيّر له النظام” يتهكم فيها على سياسيي لبنان ممن لا يلتزمون القوانين، وإن عليه هو نفسه أن يلتزم بالنظام.
فتحت تلك الحادثة عيني حول ما يجري في اليسار العربي، وفي ما بعد وريثه محور “الممانعة والمقامة والصمود” الذي تقوده إيران ومعها “حزب الله” اللبناني.
لم تدبر “الجامعة الأميركية في بيروت” مؤامرة على الرحباني، فهي لطالما كانت معقلا لليسار اللبناني والعربي، وهي التي تخرج منها زعيما “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” جورج حبش ووديع حداد، وهي التي تحولت إلى منصة للأكاديمي الفلسطيني الأميركي الراحل إدوار سعيد، الذي كان المتحدث في تخرج دفعة العام 2000.
لم تحرض أولبرايت ولا واشنطن ضد الرحباني، ولا هي كانت سمعت به يوما.
غياب الرحباني عن حفل “الجامعة الأميركية في بيروت” قبل أكثر من عشرين عاما كان سببه هلوسته وفوضويته، فهو على الرغم من عبقريته، التي جعلت مجموعة واسعة من الشباب تتأثر بأعماله، وتتقمص شخصيته، وتتقلد أقواله وإيماءاته، بقي فوضويا بطبعه، غير منضبط في أعماله وأفكاره.
والرحباني ليس في مصاف المثقفين، بل يتهكم عليهم في الغالب، وهو على الرغم من تواضع إمكانياته في الفكر السياسي والاقتصادي، يطلق تحليلات ونظريات تصب دائما في مناصرة الطغاة.
قبل أيام، أطل الرحباني عبر تلفزيون “حزب الله” في مقابلة انتقد فيها الطائفية في لبنان. لا يبدو أن الرحباني لاحظ أنه يتحدث عبر تلفزيون حزب يرأسه رجل دين ويقوم على الطائفية المذهبية الصرفة. وصف الرحباني زعيم الحزب حسن نصرالله على أنه “صامد”، وصنفه في المرتبة الثانية بعد “الصامد الأكبر”، الذي هو برأي الرحباني الرئيس السوري بشار الأسد.
ليس غريبا عشق الرحباني لـ”الرجل القوي”، ففكره السياسي بدائي يتمسك بالمستبد المستنير، بدلا من الحريات الشخصية، وأعماله وتصريحاته مليئة بالتهكم على الناس أكثر منها على حكامهم. ولطالما امتدح الرحباني في الماضي جوزف ستالين، ودافع عن قتل ديكتاتور السوفييت الراحل ملايين الروس، فمصلحة الأمة لا يعيقها موت الملايين، طالما أن موتهم سيعرقل مشاريع أميركا، وهو ما يطرح السؤال على معادي الإمبريالية واصحاب الشعارات: إذا كانت أميركا تسعى لموت الشعوب، فكيف يكون قيام “الصامدين في وجه أميركا” بقتل هذه الشعوب تصديا للمشاريع الأميركية؟
هي هلوسات يصدقها الرحباني وأمثاله، ويرددونها ليصدقها من يعتقدونه عبقريا فذا. أما الصامدين، فهم السيد فلاديمير بوتين، رئيس روسيا، الذي يجمع ومجموعته أموالا طائلة، والسيد علي خامنئي، مرشد “الجمهورية الإسلامية” في إيران، الذي يجمع وحرسه “الثوري” ثروات طائلة كذلك. أما الرحباني وصحبه، فيعزفون ويغنون ويصفقون ويهللون فوق جثث ملايين السوريين والعراقيين، وفوق أنقاض بلداتهم ومدنهم.
في الماضي، كان يرأس إحدى النقابات العمالية في بيروت عضو في “الحزب الشيوعي اللبناني”، لكن الأوضاع تغيرت مع سقوط الاتحاد السوفياتي وصعود نجم إيران في لبنان. وفي لقاء رؤساء النقابات والاتحادات العمالية، قام عامل من الشيوعيين بمناداة رئيس النقابة المذكور”رفيق فلان”، فما كان من الرئيس المذكور إلا أن صححه قائلا “الحاج فلان لو سمحت”.
هكذا أصبح “الحزب الشيوعي اللبناني” لمالكه “حزب الله”، وهكذا من غير المستغرب أن يتحول الرحباني يوما من “الرفيق زياد” إلى “الحاج زياد الرحباني”.
عذراً التعليقات مغلقة