كان يوماً لاهباً من أيام شهر يوليو/ تموز عام 2006، عندما اتصل بي أحد أساتذتي في الجامعة وأخبرني بأنه وجد لي عملاً، فأحد معارفه يريد أن يؤلِّف كتاباً وهو بحاجة لمحرر.
محرر! أي كاتب عربي هذا الذي يحتاج محرراً، لعله كاتب يعيش في أوروبا، وربما أميركا! المهم راقت لي الفكرة، أردت التعامل مع هذا الشخص الذي يعرف أن في هذا الكوكب شيء اسمه “محرّر”. وافقت بالطبع، ولكن الأستاذ طلب مني مقابلته بعد ساعتين! صرخت ساعتين؟ في هذا الحرّ.
فرغم محبتي لحلب، وفضولي للقاء هذا الرجل الذي يعرف بوجود المحرر، إلّا أنه كان من المُحال أن أخرج من البيت في فترة الظهيرة تحت أي ظرف وأنا الكائن البدين الذي يذوب تحت الشمس!
واعتذرت، ولكن الأستاذ الجامعي أضاف جملة غيّرت الموقف، قال: يا محمد نسيت إخبارك أن العمل مأجور، وعليك أن تطلب أجراً لا يقلّ عن عشرة آلاف دولار!
أجبت: أين قلت إن عليّ مقابلته؟
في ذلك الوقت كنت أسمع كلمة دولار في مكان واحد فقط، في الأفلام التي كنت أشتريها مقرصنة بعشرين ليرة من عبّارة السيديّات! فما بالك برقم عشرة آلاف، كنت مستعداً مقابل مبلغ كهذا لتحرير كتاب مقدّس!
وهكذا كنت بعد ساعتين في أحد مقاهي المدينة أنتظر الكاتب الصميدعي وأحاول تجفيف شلالات العرق النافرة من وجهي. وخلال دقائق حضر، كان خمسينياً أبيض البشرة ملتحياً ضخم الجثّة. طلب فنجاني قهوة؛ سادة لي وحلوة له، في الحقيقة لم تكن هذه علامة مُبشِّرة، فكيف لمؤلِّف عظيم أن يشرب قهوة حلوة!
ثم بدأ الحديث، قال: أنا طبيب أسنان من حلب، أعيش في السعودية منذ وقت طويل، ولدي مشروع لكتاب، ولكنني لا أجيد الكتابة بشكل رشيق وعبارات قويّة، ومنذ أيام أخبرني أحدهم بأن الكتّاب الكبار في أوروبا وأميركا لا يكتبون بأنفسهم، بل يكتب عنهم محرِّرون مختصون. ولذلك سألت صديقي الدكتور إن كان يعرف أحداً جيداً للقيام بهذه المهمّة، وقد رشَّحك لي، فما رأيك؟
فقال: الكتاب هو مشروع لنهضة الأمّة!
ومع كلمة “الأمة”، غصصت بالقهوة، وصرخت: مَن؟
فقال: الأمّة يا أستاذ محمد الأمّة. فقلت: وكيف ستنهض؟
فقال: في الحقيقة لدي مشروع عظيم سيكفل للأمة النهضة والعودة إلى سالف مجدها وعظمتها، ومشروعي يقوم على ثلاثة أركان، الركن الأول هو القومية العربية، فنحن عرب قبل كل شيء. قلت في سرّي: جميل، الركن الأوّل هو البعث، وهذه سهلة، فأنا بعثي مرّ، وعضو عامل في صفوف الحزب العظيم.
وأضاف: الركن الثاني هو الإسلام، دين السلف الصالح الصحيح، لا ما يحاول الغرب الكافر فرضه علينا! السلف الصالح! الغرب الكافر! وقومية عربية! يا سلام سلّم.
ولكن الكاتب التنويري الكبير لم يترك لي فرصة التقاط أنفاسي، ورماني بثالثة الأثافي، قال: الركن الثالث هو روحانية الإسلام، تلك الروحانية التي تعلمناها من الموالد النبوية والاحتفالات الدينية في حلب.
يمكنني أن أؤكِّد لكم أنني في تلك اللحظات غبت عن الوعي، ورحت أنظر ذاهلاً في الرجل الذي تابع الحديث عن مشروعه النهضوي، وكيف سيطبّقه على المدارس والجامعات والإعلام ونظام الحكم والجيش والوزارات والعلاقات بين الدول وبين الناس وبين الرجل وزوجته و… إلخ.
ولا أذكر في أية مرحلة قلت له: مهلاً، كيف ستصنع هذه الخلطة العجيبة من القومية العربية والسلفية والصوفية في وقت واحد؟ ثم كيف ستدخل هذه الخلطة في كل ما ذكرت؟
نظر إليّ ساخراً وقال: هذه شغلتك يا أستاذ محمد، فأنا أعطيتك المُكوِّنات، وأنت عليك صناعة الخلطة ثم إخراجها في أصناف متعددة… مو أنت محرّر شاطر كما قال لي الدكتور؟
لم أُجِب، في الحقيقة لم يكن لدي ما أجيب به. فقال: والآن، متى ستسلمني الكتاب؟
صرخت: ماذا! يجب أن نجلس عدداً كبيراً من الجلسات تملي عليّ فيها ما تريد، ثم أقوم بصياغة ما أمليتَ وهكذا نقوم بالعمل، فصلاً فصلاً حتى ننتهي. فقال: لا لا يا أخي، لماذا الجلسات والكلام الفارغ، لقد تكلّمنا في كل شيء، ولا داعي لإضاعة الوقت. ثلاثة أشهر كافية؟
لا أخفيكم، في هذه اللحظة قررت بيع الأمّة بعشرة آلاف دولار. وقلت له: نعم كافية! ولكننا لم نتحدث عن الأجور.
فقال: أية أجور؟
فقلت: أجور العمل.
فقال: عفواً يا أستاذ محمد، أنا أقول لك مشروع لنهضة الأمة وأنت تقول لي أجور. هذه الأمة يا أستاذ محمد الأمة، وعلينا جميعاً التضحية في سبيل نهضتها.
فقلت: يعني تريد مني أن أكتب لك مشروعاً لنهضة الأمة ببلاش؟
فقال: بل تطوّعاً لوجه الله تعالى، وعند الله لا تضيع الودائع. فقلت: بل وعند الله تجتمع الخصوم! آسف يا سيدي، لن أجعل الأمة تنهض ببلاش، وللستين جهنم إن نهضت أم لم تنهض. ثم وقفت وودعته.
قبل خروجي من باب المقهى هرع إليّ قائلاً: عفواً يا أستاذ، لقد أفشيت أمامك أفكاري، وعليك أن تكون أميناً عليها، فلا تكتبها وتدعيها لنفسك وتسرق مني نهضة الأمة، وبيني وبينك الله يوم الحساب.
نظرت إليه مطولاً، ثم انفجرت ضاحكاً كالمجنون لافتاً انتباه كل من كان في المقهى.. وخرجت ويدي على الموبايل تكتب لأستاذي رسالة تقول: صاحبك الوغد، يريد أن تنهض الأمة ببلاش.
عذراً التعليقات مغلقة