منذ اندلاع الثّورة السّوريّة،حدّد النظام الأسديّ المجرم استراتيجيّته، واتخذ قراره بالمواجهة المباشرة عبر العنف والحسم العسكري لإخضاع المناطق الثّائرة ضدّ استبداده.
ولا تخرج إدلب عن هذه الاستراتيجيّة مطلقاً، فهدف النّظام هو إخضاعها وإعادتها للحظيرة الأسديّة، لكنّ الّذي تغيّرَ هو الأسلوبُ المتبع، تبعاً لتغيّرِ المعطيات والمواقع التوازنات الإقليميّة والدّوليّة أمامَ إدلب التي بات يقطنها ما يزيد على مليونين ونصف المليون سوريّ – منهم أهلها المقيمون، ومنهم النازحون والمهجّرون إليها عبر سنوات الحرب والتّهجير الأسديّ الممنهج من سائر الجغرافية السّوريّة – أدركَ النّظام أنّ أسلوب التّحشيد العسكري والحرب المباشرة كما انتهج في المناطق الثائرة الأخرى، بات غير ناجعٍ، وأنّ عليه الآن مواجهة المعطيات والظروف الخاصة بإدلب، بحسبانِ أن ذلك يصبّ في النّهايةِ بتركيعها وإلحاقها بسائر المناطق الأخرى التي تمت إعادتها لربقةِ النظام المجرم. وذلك بالتّماشي مع الخطة الرّوسيّة الرّامية إلى فرض حلٍّ سياسيّ وفقاً للمصالح والرؤية الروسية التي يأملون بأن تنتهي بإعادة تتويج الأسد على سورية مجدّداً، بالتّزامنِ مع العمل الحثيث على موضوع إعداد دستور سوريّ جديد من المؤكد أنه يلبّي مصالح النظام والرّوس بالبقاء في سورية لعقود قادمة…
إنّ الإستراتيجية آنفة الذّكر، تصطدم في إدلب بعاملين اثنين، جعلا النظام وحلفائه يغيّران فقط من الأسلوب والتكتيك مع بقاء الأهداف الإستراتيجيّة ثابتة كما هي: وأوّل هذين العاملين يتبدّى في التحذير العالمي للنظام السوري من حصول مجازر وإبادة جماعية واسعة النطاق فيما لو شنّ النظام حملةً عسكرية على إدلب على غرار ما حصل في باقي المناطق، نظراً للاكتظاظ السكّاني الكثيف فيها بعد موجات النزوح من باقي المناطق جراء الحملات العسكرية التي كان يشنّها النظام، حيث جاوزَ عدد قاطني إدلب مليوني نسمة، وقد جاءت هذه التحذيرات من قبل دول كبرى عدة، وآخرها من منظمة الأمم المتحدة، التي باتت قلقةً حيالَ وضع الأعداد المليونية بعدما لم يتبقى لهم من مكان آمن يلوذون إليه هرباً من آلة الحرب. فأمام هذه التحذيرات وجدَ النظام وحلفاؤه أنفسهم مضطرين لمجاراة الرأي العام العالمي، ظاهريّاً، ولو أنّ الأمس القريب عكس ذلك عاماً.
والعامل الثاني يتبلور في النّفوذ التركي: وآيةُ ذلك، أن إدلب بموجب اتفاقيّة أستانا، داخلة ضمن مناطق خفض التّصعيد الّتي اتفق على نشر نقاط مراقبةٍ فبها قوامها عناصر من الجيش التّركي مع عتادها، ضماناً لتنفيذ الاتفاق. إذن فهي من الناحية العملية ووفقاً للتّفاهمات الدّوليّة الّتي اقتضتها طبيعة العلاقات بين الدّول الثّلاث الضّامنة ومبدأ تبادل المصالح، تُعدُّ منطقة نفوذ تركي يُفترضُ بالنظام احترامها تبعاً للالتزام الرّوسي الضامن لذلك، وبالتالي فإن خرق النّظام لذلك ربما يستتبع مواجهةً عسكريّةً مباشرة مع الأتراك، أُسدِلَ السّتار عليها منذ زمنٍ، بعد الاعتذار التركي عن إسقاط الطائرة الحربية الرّوسية أواخر عام 2015.
لذلك وأمام تينكَ الصّعوبتين المشار إليهما بات على النظام تغيير أسلوب عمله على الأرض، متبعاً تكتيكين جديدين بما يناسب المعطيات والظروف والتفاهمات الجديدة وهما:
1- الحرب من الداخل: والتي تجلّت في سلسلة التفجيرات والمفخخات التي تهزّ إدلب ريفاً ومدينةً بين فترةٍ وأخرى، أو الاغتيالات التي تستهدف عناصر وقياداتٍ من الفصائل الثورية المقاتلة، وذلك عبر عملاء النظام داخل إدلب، تلك الأعمال الّتي يذهب ضحيّتها عشرات الأبرياء من المواطنين السوريين عدا عن الممتلكات، ويهدف النظام من ورائها إلى إشاعة البلبلة، وعدم الاستقرار، وإلى تأجيج الاحتجاجات الشعبيّة ضدّ الفصائل الموجودة في إدلب، واتهامها بالتقصير في حفظ الأمن وتوفير الأمان لهم، الأمر الذي يشيع مشاعر عدم الثقة بهذه الفصائل ويمزّق بالتالي عناصر التلاحم الاجتماعي والنفسي بين الحاضنة الشعبية والفصائل الثورية، دفعاً باتجاه تفضيل جماهير الحاضنة لوجود النظام على هذه الفصائل، علاوةً على ما ينشبُ بينها من خلافاتٍ غرزها النّظام وأعوانه فيما بينها أدّت إلى مواجهات عسكرية مباشرة ذهبت بمئات الضّحايا.
2- إنتهاج تكتيك الحل العسكري المتدرّج والمدروس: حيث شهدت مناطق إدلب في الآونة الأخيرة هجماتٍ بالطائرات الرّوسيّة وطائرات النّظام بشكلٍ انتقائيّ مدروسٍ ومؤثرٍ على مواقع عسكرية معارضة، وتجمّعات مدنيّة ونقاط طبيّة ومشافٍ ومدارسَ لن تكون آخرها مجزرة بلدة زردنا قُبيل عيد الفطر بيومين، ذهبَ ضحيّتها أكثر من خمسينَ شهيداً، وثمانين جريحاً، كما سُجلت هجمات في كلّ من مناطق أريحا ورام حمدان وبنّش وتفتناز، أسفرت عن عشرات الضحايا، وخروج مشفيي النّور وبنّش عن بشكل كامل عن الخدمة، عدا عن تدمير ثلاث مدارس.
خلاصة القول: إنّ أهداف ومفردات عمل النظام وحلفائه لم تتغير في معرض استراتيجيته لإخضاع إدلب، إنما الذي تغيّر الأسلوب والتكتيكُ فقط، فالحيّةُ لاتخلع أنيابها عندما تخلع جلدها، ويصدق في هذا المقام المثل العربيّ القديم القائل (العصا من العُصيِّة، والحيَّةُ لا تَلِدُ إلّا حيّة).
عذراً التعليقات مغلقة