قبل ثلاثة أيام كتب عضو جماعة الإخوان المسلمين ملهم الدروبي على صفحته في فايسبوك: ماذا قدّم العلمانيون للثورة السورية؟ وصيغة الاستفهام هنا لا تغطي على ما في داخلها من نفي واستنكار، إذ من دونهما يفقد السؤال قيمته، أو على الأقل يطرح أسئلة أخرى حول السبب في تخصيص العلمانيين بالتساؤل، بخلاف الإسلاميين مثلاً الذين يبدون في خلفية السؤال خارج المساءلة. والسؤال أيضاً يضمر ذلك التقسيم الصارم بين إسلاميين وعلمانيين، بحيث لا يتسع لمسلمين وعلمانيين معاً، أو لمسلمين علمانيين ليسوا على شاكلة الدروبي وجماعته، وإن لم تمتلك هذه الفئة حتى الآن أدواتها السياسية.
الجدل الذي أثاره الدروبي في أوساط “ناشطين علمانيين” انصب في مجمله على التذكير بمشاركة العلمانيين في الثورة والأثمان الباهظة التي دفعوها، وفي الجانب الآخر على التذكير بأخطاء الإسلاميين وما تسببت به من كوارث للثورة. والحق أن هذا السجال ليس بجديد، وقِدمه لم ينجز تراكماً معرفياً، وهذا بات حال العديد من السجالات المرافقة للثورة السورية، والمرافقة على نحو خاص لمرحلة اليأس والإحباط العامة.
واحدة من مشاكل ما كتبه الدروبي، وما يردده إسلاميون آخرون، هي محاولة السطو على التاريخ القريب بتصوير الثورة الشعبية التي اندلعت في آذار 2011 كثورة إسلامية. وكي لا نتسرع في وصف الثورة بالشعبية منذ بدايتها يجب التوضيح بأن عملاً من الإعداد والتحريض، استئناساً بموجة الربيع العربي التي كانت قد امتدت من تونس إلى مصر وليبيا، قام به ناشطون لا ينتمون قطعاً إلى أيّ من التيارات الإسلامية. ولا نفشي سراً إذا قلنا أن مظاهرات البدايات التي كانت تنتقل من حي إلى آخر، في دمشق وفي حلب لاحقاً وغيرهما، كان ينظمها ويشارك فيها مجموعة من الناشطين أنفسهم يتنقلون بين هذه الأحياء والمظاهرات بغرض كسر حاجز الخوف. حتى قصة أطفال درعا، وما أثارته لاحقاً على الصعيد الشعبي، لا يمكن احتسابها بأي شكل على الإسلاميين والقصة معروفة بتفاصيلها للجميع، أما استثمار القصة إعلامياً فقد تولى معظمه ناشطون إعلاميون غير محسوبين على الإسلاميين، وللتذكير لم يكن حينها من حضور فعلي في الساحة لأيّ من التيارات الإسلامية.
قد يستقوي الدروبي، في أدونيسية معكوسة، بأن انتظام المظاهرات أتى في أيام الجمع وبعد الانتهاء من صلاة الجمعة. لكننا نعلم، بخلاف الدروبي وأدونيس، أن هذا الاختيار أتى أصلاً على خلفية إحراج النظام بما للجامع من قدسية، وكان من ينتظرون أمام الجامع من غير المصلّين بهدف التظاهر يفوق في العديد من المظاهرات أعداد المصلين، مع عدم اعتبار الأخيرين إسلاميين حكماً ومع التفريق بين الإيمان والتدين والأسلمة السياسية. على أية حال يُحسب لنسبة كبيرة من العلمانيين مراهنتهم آنذاك على ثورة وطنية ديموقراطية جامعة، لا تستثني أحداً من السوريين، ولا تستثني الإسلاميين إذا شاؤوا المشاركة، وهذا لا يعني أن العلمانيين كانوا قادة الثورة لأن الثورة كما نعلم انطلقت وبقيت على حال أفضل ما يوصف به هو اللامركزية وأسوأ وصف هو التشرذم القاتل. وهنا يجدر التذكير بأول تنازل رمزي، ثبت خطأ تقديمه، هو تولي صفحة الثورة السورية الموجهة إخوانياً تسمية أيام جمع التظاهر، حيث كانت تلك التسميات توطئة لأسماء إسلامية للفصائل في طور التسليح، الأمر الذي لم يُواجَه وقتها حرصاً على تضامن الجميع إزاء وحشية الأسد.
عملية السطو الأخرى الأضخم التي يقوم بها الدروبي وأمثاله من الإسلاميين تتعين بالسطو على الفضاء العام الرمزي، وباعتبار أنفسهم ممثّلي ذلك الفضاء ومالكيه الحصريين. هذا لا يختلف من حيث المظهر والجوهر عن سطو تنظيم الأسد على ثروات البلاد، وعن استيلائه على السلطة واحتكاره تمثيل السوريين طوال عقود. ينكر الإسلاميون على اختلاف تنظيماتهم ذلك الفارق بين المسلمين والإسلاميين، فمن وجهة نظرهم كل المؤمنين بالدين الإسلامي سواءٌ، ويرون أن التفريق بين التدين كشأن شخصي والإسلام السياسي كشأن عام بدعة علمانية، من دون أن نخوض في رفضهم الإقرار بأن الثقافة الإسلامية المؤثرة في المنطقة على العموم هي شأن مغاير للإسلام بالمعنى الضيق ولا يختص بها مسلمو المنطقة وحدهم.
من المؤسف أيضاً وجود علمانيين يساعدون على إتمام عملية السطو الأخيرة، بعدم التفريق بين الإطار الحضاري العام وبين المسلمين والإسلاميين؛ بمعنى آخر بعدم دفاعهم عن الفضاء الرمزي العام الذي ينبغي بقاء ملكيته على الشيوع. وثمة علمانيون يخلطون جهلاً أو عمداً بين الدين الإسلامي كشأن شخصي والتنظيمات الإسلامية ليعتبروا المشكلة في الدين، وكأنهم بهذا المعنى يقولون أنها لن تجد حلاً ما دام الإسلام موجوداً. على صعيد الخلط أيضاً ثمة علمانيون يخلطون بين شتم الدين ونقد الظاهرة الدينية، ومن المؤكد أن جزءاً لا يُستهان به من هذه الشتائم سببه ممارسات التنظيمات الإسلامية التي أساءت للدين بأكثر من محاربتها المزعومة لأجله، وإن كانت ردة الفعل على تلك الممارسات تتسم بالصبيانية وبانعدام الجدوى المعرفية.
بالعودة إلى تساؤل الدروبي، وأمثاله من الإسلاميين عن مساهمة العلمانيين في الثورة، فهو يصح بكل تأكيد على طور العسكرة الذي نكذب إذا لم نقرّ بطغيان الأسلمة عليه، بين تنظيمات جهادية وأخرى سلفية وأخرى مدعومة إخوانياً. من المؤكد أن العلمانيين، بمن فيهم مَن هم أشد حماساً للعسكرة، لم يكونوا على استعداد لينخرطوا فيها، وهذه مفارقة ينبغي التأمل فيها بخاصة من قبل أولئك الذين يؤمنون بأن تنظيم الأسد غير قابل للسقوط إلا بالقوة، وهو ما يعلنه التنظيم نفسه في كل مناسبة. فضلاً عن ذلك لم يحدث، من قبل أي طرف، ذلك التمييز الضروري بين الثورة والحرب، حتى إذا كانت الأخيرة أداة للأولى في أحسن أحوالها. هذا التمييز مهمة العلمانيين لا الإسلاميين، بسبب توفر عنصر الانسجام لدى الإسلاميين بين الاثنتين نظرياً وعملياً.
وإذا كانت تحالفات الحروب عموماً لا تعبّر عن تطابق في الأهداف بين المتحالفين فإن المشترك الوحيد بين علمانيي الثورة والمحاربين الإسلاميين هو هدف إسقاط النظام، وكان واضحاً الافتراق السريع بين الطرفين مع تجربة “المناطق المحررة” التي لم تشهد تحت ظل الإسلاميين منسوباً من الحرية يذكّر ولو من بعيد بأسباب الثورة، إذا لم نقل أنه في العديد من التجارب كان يرجّح كفة تنظيم الأسد ويدعم بقاءه. هنا، من خلال تلك التجارب، يصح القول بوجود ثورتين؛ ثورة الإخوان والإسلاميين، وثورة باقي السوريين التي انضوى ضمنها أيضاً مسلمون يؤمنون بالحرية والديموقراطية بلا تحايل أو مراوغة.
ثورة الإخوان والإسلاميين هي للأمانة أقرب إلى المفهوم الكلاسيكي الانقلابي للثورة، وأقرب إلى أعدائها من الثوريين الشيوعيين، إذ تهدف أساساً إلى تحكيم أيديولوجيا شمولية، وغايتها القصوى والأمثل إقامة نوع من الهندسة الاجتماعية. وجود اختلافات بين التيارات الإسلامية، وصولاً إلى التكفير والتكفير المضاد، يكشف عن أزمة تلك التيارات في رحلة الاصطفاء المتخيلة لدى كل منها، والتي تبدأ بقضم المجتمع قبل الشروع في قضم أشباهها، أو العكس، وهذا عموماً حال التوتاليتارية. إلا أن ما يجمعها، ويغطي حتى على خلافاتها الدموية، ذلك العداء الجذري والشرس للعلمانية بعدّها نقيضاً لا لبس فيه لفكرة الحاكمية. الفصل بين الديموقراطية والعلمانية فيه ما فيه من الكذب والتدليس، سواء أتى من علمانويين أو من إسلاميين، وسواء أتى لترجيح العلمانية على الديموقراطية من قبل الطرف الأول، أو لترجيح ديموقراطية “التغلب والتمكن لمرة واحدة” من قبل الطرف الثاني، وما يجمعهما عداء معلن أو مضمر لفكرة الحرية الفردية “بما فيها حرية الإيمان وعدمه” التي لا تكون ديموقراطية من دونها.
أهمية تساؤل الدروبي وأقوال مماثلة لإسلاميين آخرين أنها تقول ما ينبغي أن يُقال خارج نفاق التحالفات الهشة أو تحالفات النفاق، والإجابة على سؤاله ممكنة وبسيطة حقاً، فالعلمانيون لم يقدّموا شيئاً لثورة الإخوان والإسلاميين، والحق أن الإسلاميين بمختلف تياراتهم بذلوا تضحيات كبيرة في ثورتهم. أيضاً لم يقدّم الإسلاميون شيئاً لثورة باقي السوريين، وفي العديد من المحطات الهامة والحرجة أساؤوا لهذه الثورة وخدموا تنظيم الأسد، لا بقصد خدمته وإنما بسبب ما يجمعهم مع ذلك التنظيم موضوعياً لجهة العداء للحرية والديموقراطية. من هذا الجانب ربما تسقط مبررات لوم كل طرف الآخر، لأن الحديث عن ثورة جامعة يحتمل الكثير من الغش، فوق الكثير من التمنيات الطيبة التي لا يسندها الواقع. أما الإجابة على الجانب الكيدي في السؤال فلعلها تتلخص في أن العلمانيين تصرفوا إزاء الإسلاميين بما تمليه عليهم مثُل الديموقراطية، بينما تصرف الإسلاميون إزاءهم بما يمليه عليهم مشروع الحاكمية، وهذه النزاهة الفكرية تُسجّل لكل منهما على حدة.
عذراً التعليقات مغلقة