يركّز كل نقاش يدور راهناً حول دور الأفرقاء الإسلاميين العابرين للحدود في النزاع السوري، على التنظيمات السلفية الجهادية، مثل تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة. لكن في 2012-2013، أدّت شبكات أخرى عابرة للحدود الدور الأبرز في رسم معالم النزاع، وكانت تديرها جهات سلفية حركية وعلمية مهمتها جمع التبرعات وتتخذ من دول الخليج، ولاسيما الكويت، مقراً لها.
إلى جانب تأمين الدعم الإنساني المهم للمناطق الخاضعة إلى سيطرة المعارضة، وكذلك للاجئين في الخارج، ساهم جامعو التبرعات في إنشاء أكبر تحالفات للفصائل المسلحة خلال الحرب السورية. لكن نجاح هذه التحالفات لم يُعمِّر طويلاً؛ فبحلول العام 2014، بدأت هذه التحالفات المدعومة من السلفيين تفقد زخمها سريعاً، بسبب الانتكاسات العسكرية والانقسام الفئوي في صفوف الفصائل في سورية، فضلاً عن تراجع التبرعات الخاصة من دول الخليج، مع مواجهة جامعي التبرعات السلفيين قمعاً من الدولة في الداخل، وانحساراً في اهتمام الرأي العام في الخليج بالأحداث في سورية. تزامناً، اقترنت، في الداخل السوري، الحاجة إلى تحالفات أكثر براغماتية وأقل عقائدية للفصائل، مع الحزم المتنامي للدول الأجنبية الداعِمة، ما أسفر عن ظهور أنماط جديدة من التحالفات. في معظم الأحيان، لم يؤدِّ جامعو التبرعات السلفيون في الخليج، أيّ دور في هذه التحالفات الجديدة، إلا أنهم لازالوا يمارسون تأثيراً في الحيّز الديني في البلاد.
لماذا دعم السلفيون في الخليج المعارضة السورية؟
القرار الذي اتخذه السلفيون في الخليج، في العام 2011، بأن يكونوا في صدارة مقدّمي الدعم المالي لفصائل المعارضة المسلحة في سورية، نابعٌ من الرغبة في تعزيز مكانتهم في الداخل والخارج. وهذا بدوره لم يؤدِّ سوى إلى اشتداد المنافسة بين الشبكات السلفية، ولاسيما بين السلفيين الحركيين والعلميين (الذين يدعون إلى طاعة الحكّام). وفي الكويت، نُظِّمت حملات لجمع التبرعات للفصائل السورية بقيادة سلفيين حركيين كانوا سابقاً لاعبين صغاراً على الساحة السلفية، بالمقارنة مع خصومهم من جمعية إحياء التراث الإسلامي المنتمية إلى السلفية العلمية والمنضوية تحت لواء الخط السعودي.
كان الداعية حجاج العجمي الأكثر ديناميكية بين جامعي التبرعات الكويتيين. وهو أقام شراكة مع حاكم المطيري، أمين عام حزب الأمة، وهو تنظيم سياسي عابر للحدود ينادي بالليبرالية السياسية في الداخل، وبنزعة مناهِضة بشدّة للإمبريالية في الخارج. وقد لعب الحزب، في وقت مبكر، دوراً أكبر من حجمه في سورية عبر دعم حركة أحرار الشام، الذي كان في السابق الفصيل الأكبر في سورية وحجر زاوية في الجبهة الإسلامية السورية التي تأسست في كانون الأول/ديسمبر 2012. وقد ساهم محمد المفرح، أمين عام فرع حزب الأمة المحظور في السعودية، في تأسيس حركة أحرار الشام في العام 2011، ولقي محمد العبدولي، أمين عام فرع حزب الأمة في الإمارات العربية المتحدة، مصرعه أثناء القتال مع الحركة في الرقة في العام 2013.
أتاح النزاع السوري فرصة مماثلة لشبكة إقليمية أخرى من السلفيين، غالباً ما تُعرَف بـ”السرورية”، تيمّناً بمحمد سرور زين العابدين (1938-2016)، وهو داعية سوري أمضى فترة طويلة في المنفى – ولاسيما في السعودية، والمملكة المتحدة، وختاماً قطر – ومزج العقائد الدينية السلفية مع التركيز على المسائل السياسية على طريقة الإخوان المسلمين، وكان هذا المزج مصدر إلهام أساسياً لتيار الصحوة الذي تحدّى النظام السعودي في مطلع التسعينيات. كان تأثير زين العابدين في سورية محدوداً جداً قبل العام 2011، ليس فقط بسبب غيابه عنها، إنما أيضاً لأن انتقاداته كانت تتمحور حول النظام الملكي في السعودية، حيث كان يعيش معظم أتباعه.
مع اندلاع الثورة في العام 2011، أعاد زين العابدين صبّ جهوده في سورية. وفي أيلول/سبتمبر 2012، ألقى بثقله خلف جبهة تحرير سوريا الإسلامية، التي جمعت في صفوفها آلاف المقاتلين الذين ينتمون إلى أربعة من أقوى الفصائل المتمردة: لواء الإسلام (لاحقاً جيش الإسلام) في محافظة دمشق؛ وكتائب الفاروق في محافظة حمص؛ ومجموعتان كانتا مُستلحقتَين من قِبل الإخوان المسلمين سابقاً، هما صقور الشام في محافظة إدلب، ولواء التوحيد في محافظة حلب، وقد تمكّنت جبهة تحرير سوريا الإسلامية من ضمّهما إلى صفوفها بفضل ما تتمتع به من إمكانيات مالية.
قيادة السلفيين الحركيين لحملات جمع التبرعات لمصلحة المتمردين السوريين، دفعت بمنافسيهم العلميين الموالين للسعودية إلى القيام بخطوة مماثلة. وفقاً للرغبات السعودية، دعمت هذه الشبكات، في البداية، المحاولات الآيلة إلى إنشاء هيكلية قيادية خاصة بالجيش السوري الحر تحت رعاية ضباط انشقّوا من الجيش السوري النظامي. وقد وُجِّهت دعوة إلى الداعية التلفزيوني السوري المقيم في السعودية، عدنان العرعور (الذي ألقى باللائمة على جامعي التبرعات السلفيين الحركيين في الكويت معتبراً أنهم التفّوا على هذه المبادرات لمصلحة فصائل متشدّدة) لإلقاء كلمة كمتحدّث أساسي في الاجتماع الذي عُقِد في أيلول/سبتمبر 2012 لتدشين القيادة المشتركة للمجالس العسكرية الثورية، وهي من بين الأطراف المرشّحة لقيادة الجيش السوري الحر.
كذلك تولّت شخصيات شهيرة انشقّت في بداية الثورة المسلحة عن الجيش السوري وانضمّت إلى الجيش السوري الحر، مثل الملازم أول عبد الرزاق طلاس والنقيب عمار الواوي والنقيب ابراهيم مجبور، مناصب قيادية في جبهة الأصالة والتنمية التي موّلتها جمعية إحياء التراث الإسلامي المنتمية إلى النزعة السلفية العلمية في تشرين الثاني/نوفمبر 2012. يجب النظر إلى قرارها بزيادة تدخلها في النزاع السوري على ضوءموقفها الدقيق على الساحة الداخلية في ذلك الوقت. لقد تمكّن المنافسون الحركيون للجمعية من زيادة بروزهم على الساحة إلى حد كبير بفعل دعمهم الاستباقي للفصائل السورية، وقضايا أخرى في مختلف أنحاء المنطقة، بعد الثورات العربية التي اندلعت في العام 2011. علاوةً على ذلك، تعرّض التماسك داخل الجمعية إلى التهديد من قبل جناح إصلاحي انضم إلى المعارضة الكويتية الداخلية، بشكلٍ تنافى مع رغبات قيادة الجمعية. وفي وقتٍ بدا فيه النصر ممكناً للفصائل السورية، كان يمكن أن تساهم رعاية السلفيين الحركيين للتحالفات العسكرية الأكثر نفوذاً، في تعزيز مكانتهم بصورة دراماتيكية في المنطقة، الأمر الذي كان ليشكّل خطراً حقيقياً جدّاً على نظرائهم العلميين.
يدين السلفيون المقيمون في الخليج، في النجاح الأولّي الذي حققوه على الساحة السورية، بالفضل إلى مزيج فريد من العوامل. العامل الأول هو ارتفاع معدل إجمالي الناتج المحلي للفرد في بلدانهم، ما زاد من حظوظ إقبال المواطنين الخليجيين على التبرع للمجموعات السلفية. ونظراً إلى الحظر الذي فرضته السعودية على جمع التبرعات الخاصة لمصلحة الفصائل السورية اعتباراً من أيار/مايو 2012، بدأت هذه التبرعات تتركّز في دولتَي قطر والكويت الأكثر تساهلاً في هذا المجال. حتى إن نايف العجمي، وهو سلفي يجمع تبرعات لمصلحة الفصائل السورية، تولّى منصب وزير العدل في الكويت في مطلع العام 2014. في هذه الأجواء، تمكّن الداعِمون السلفيون للقضية السورية من العمل العلني، فاحتكّوا بمجموعة من المانحين أوسع نطاقاً من الشبكات المحجوبة عن الأنظار التي كانت تموِّل عادةً النزعة الجهادية الإسلامية المتشدّدة.
العامل الثاني الذي صبّ في مصلحة هؤلاء السلفيين هو صعود نجم بعض جامعي التبرعات، بحكم إطلالاتهم كدعاة عبر شاشات التلفزة. على سبيل المثال، تولّى حجاج العجمي، الذي كان عمره 24عاماً فقط في العام 2011، تقديم أحد برامج تلفزيون الواقع الإسلامية، واقتحم العرعور عالم وسائل الإعلام بإثارته نقاشاً جدلياً مناهضاً للشيعة. وقد اعتمد شافي العجمي، وهو أيضاً من كبار جامعي التبرعات الكويتيين لمصلحة أحرار الشام، على شعبية شريكه نبيل العوضي، وهو شيخ يطل عبر شاشة التلفزة ويتمتع بشعبية واسعة، والذي أصبح بحلول أيلول/سبتمبر 2011، المغرِّد الأكثر تأثيراً في سورية. فضلاً عن ذلك، وفي حين أن دول المنطقة كانت إما معادية للشبكات الجهادية وإما تعاملت معها بطريقة غير مباشرة، جسّد السلفيون الحركيون نزعة مقبولة بما يكفي لإقامة شراكة علنية مع قطر وتركيا، فيما أقام السلفيون العلميون شراكة مع السعودية.
كذلك أفاد السلفيون من التوجّه السائد، في البداية، من مرونتهم الإيديولوجية النسبية في الجهود الآيلة إلى تشكيل تحالفات كبيرة من الفصائل السورية، حيث كانت أعداد السلفيين الحقيقيين ضئيلة داخل سورية، بسبب تعرّضهم إلى القمع لسنوات على يد الدولة. لم يتمكّن جامعو التبرعات في الخليج من التواصل مع مجموعات سلفية بحتة كبيرة، باستثناء مجموعة زهران علوش في دوما، التي انبثق عنها لواء الإسلام. بدلاً من ذلك، أقاموا روابط مع فصائل محلية عن طريق وسطاء أفراد، مثل جهاديين مخضرمين، ودعاة، ونشطاء سياسيين. وهكذا، لم يكن جامعو التبرعات السلفيون من النوع الذي يصعب إرضاؤه في اختيار المستفيدين، على الرغم من أنهم شجّعوا الفصائل المتمردة على تبنّي الشعارات والرموز الإسلامية، وحاولوا رسم معالم سياسة هذه الفصائل وفقاً لأجنداتهم الخاصة. ولم يفرضوا الالتزام العقيدي واسع النطاق نفسه الذي كانت التنظيمات الجهادية تتوقّعه من أتباعها.
إذن، على الرغم من أن حجاج العجمي، مثلاً، كان داعماً بارزاً لأحرار الشام ولفصائل أكثر تشدداً، إلا أنه قدّم الرعاية أيضاً للعقيد رياض الأسعد، مؤسس الجيش السوري الحر. لقد كانت جبهة تحرير سوريا الإسلامية المدعومة من سرور، تحالفاً ذا مكوّنات متنافرة، يضم لواء الإسلام السلفي البحت، إلى جانب إسلاميين من نوع الإخوان المسلمين. غير أن الجبهة لم تضم جهاديين، وذلك بسبب الجدل الذي أثاره زين العابدين، على امتداد عقود، حول ما أسماه “حزب الغلاة“. أما في ما يتعلق بجبهة الأصالة والتنمية، فهي انجذبت نحو الفصائل القبلية في شرق سورية. ولم يكن السبب أن السلفية العلمية كانت قوية هناك، بل يعود ذلك إلى الروابط الشخصية، مثل تلك التي تجمع أمين عام جبهة الأصالة والتنمية، خالد الحماد – وهو مغترب سوري مقيم في الكويت – بمحافظة دير الزور حيث مسقط رأسه.
بدا أنّ نفوذ جامعي التبرّعات السلفيين في الخليج بلغ ذروته في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2013 مع اندماج جبهة تحرير سوريا الإسلامية والجبهة الإسلامية السورية، تحت مظلّة ما سُمي بالجبهة الإسلامية. كانت هذه الخطوة غير مسبوقة لسببَيْن: الأوّل أنّها أدّت إلى أكبر تحالف للمقاتلين السوريين على الإطلاق؛ والثاني أنّه تمّ تمويل التحالف الجديد من قبل سلفيين حركيين وعلميين، بفضل شبكات المحسوبية المزدوجة التابعة لجيش الإسلام بقيادة زهران علوش، وهو فصيل أساسي في جبهة تحرير سوريا الإسلامية.
مع ذلك، ما بدا أنه عرض للقوّة والتوحّد، سرعان ما تحوّل إلى لا شيء من هذا القبيل. فمع حلول صيف العام 2014، تحوّلت الجبهة الإسلامية إلى قوقعة فارغة. كان جزء من المشكلة يتعلّق بالوقائع على الأرض، إذ أسفرت الانتكاسات العسكرية على يد النظام عن انقسامات بين الفصائل التي كانت تابعة لجبهة تحرير سوريا الإسلامية، بما في ذلك لواء التوحيد، وكتائب الفاروق، وصقور الشام التي فقدت لواء داوود القوي لصالح تنظيم الدولة الإسلامية الصاعد آنذاك. علاوةً على ذلك، أدّى التنافس بين أحرار الشام وجيش الإسلام، وهما ركنان من الجبهة الإسلامية، إلى تشكيل ائتلافات فرعية داخل التحالف، ما أفضى إلى تقويض الطموحات الأوّلية لبناء قيادة مركزية.
تجاوزت جبهة الأصالة والتنمية المتواضعة نسبياً أعمار عدد من المتنافسين الآخرين، على الرغم من أنّها تقلّصت أيضاً بسبب تقلّبات الحرب. فقد عانى التحالف السلفي العلمي من ضربة قوية في صيف العام 2014، عندما طرد تنظيم الدولة الإسلامية الفصائل المتنافسة من شرق سورية. وهكذا، شكّل أعضاء محليون من الجبهة جيش أسود الشرقية، ثم قادوا عمليات ضدّ الدولة الإسلامية في البادية (الصحراء السورية الوسطى) بدعم من قيادة العمليات العسكرية التي تخضع إلى إشراف وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، التي افتتحت مقراً لها في الأردن. وفي العام 2016، فقدت جبهة الأصالة والتنمية ركائزها الشرقية بعد إنشاء جيش سوريا الجديد (أُعيدت تسميته لاحقًا بجيش مغاوير الثورة)، الذي أبرم شراكة مع البنتاغون. فأوّلاً، انسحب جيش أسود الشرقية من الجبهة معارضاً المشروع، ثم فصلت الجبهة من صفوفها جيش سوريا الجديد بعد رؤية قائده، خزعل السرحان، في وثائق سرّبتها الدولة الإسلامية، وهو يحمل العلم الأميركي على كتفيه ويعبّر عن عدم اكتراث بالضحايا المدنيين. الجدير ذكره هنا أن الجبهة لاتزال موجودة رسمياً في غرب سورية، لكنّها تبدو هامشية إلى حد كبير.
انقلاب الحظوظ في سورية
من العام 2014 فصاعداً، كان المموِّلون السلفيّون في الخليج غير مهمّين بشكل عام في تشكيل تحالفات الفصائل الجديدة التي بنيت على بقايا الجبهة الإسلامية والجماعات المماثلة، وذلك بفعل ثلاثة عوامل رئيسة: انخفاض مساعدات جامعي التبرّعات في الخليج نتيجة للإجراءات التقييدية والمزاج العام المتغيّر في بلادهم، والوقائع العسكرية الجديدة، والاحتياجات التنظيمية داخل سورية، إضافةً إلى جهد متنامٍ من جانب الدول الراعية لتعزيز قوّات المتمرّدين.
وفي حين أنّ استراتيجية جمع التبرّعات المعتمدة من قبل مؤيّدي السلفيين الرئيسيين في الخليج كانت تستند إلى بروزهم الإعلامي وقدرتهم على النشاط العلني، أصبح هذا الأمر في العام 2014 بمثابة عائق. فهذا البروز جعل جامعي التبرّعات عرضة إلى إجراءات صارمة شجّعتها الحكومة الأميركية، التي فرضت عقوبات على سلفيين حركيين، على غرار حجّاج وشافي العجمي، الذين دعموا في المقام الأوّل الفصائل الإسلامية الرئيسة في سورية، لكنّهم أصبحوا أكثر انفتاحاً على نحو متزايد بشأن رعاية جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة. وأدّى الضغط الأميركي إلى استقالة وزير العدل الكويتي، نايف العجمي، على خلفية انخراطه في جمع تبرّعات متعلّقة بسورية، كما ضعفت شبكات السلفيين الحركيين في الكويت أكثر بسبب قرار السلطات المحلية الانضمام إلى حملات القمع السائدة في المنطقة ضدّ المعارضة الإسلامية، في أعقاب قمع مصر لجماعة الإخوان المسلمين. وعمدت السلطات، على وجه الخصوص، إلى سحب الجنسية الكويتية من نبيل العوضي، وأمرت بإغلاق جمعية فهد الأحمد المرتبطة بسرور.
لم يكن تزايد القمع في الداخل هو العامل الوحيد الذي أدّى إلى انصراف جامعي التبرّعات السلفيين في الخليج، والجمهور، عن القضية السورية. ففي حين أنّ الإرهاق كان سيحلّ حتماً بفعل نزاع مديد ومشرذم بشكل متزايد (بدأت التبرعات بالتناقص في وقت مبكر من العام 2013) ظهرت قضايا إقليمية أخرى. وشمل ذلك الإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي في تموز/يوليو 2013، والقمع اللاحق للإخوان المسلمين، علاوةً على التوسّع الحوثي في اليمن، والتدخّل العسكري الخليجي الذي تبعه.
لكنّ التمويل السلفي للفصائل السورية لم يتوقف كليّاً. فقد استمر السلفيون العلميون والسروريّون، الذين لم يموّلوا الجهاديين، بدعم الأطراف التي يفضّلونها: جبهة الأصالة والتنمية، وجيش الإسلام. مع ذلك، وبغض النظر عن الصعوبات التي يواجهها المتبرّعون، فإنّ التحالفات السلفية الأصلية في سورية لم تعد مناسبة للفصائل. فقد كان الطابع السوري الواسع والهوية السياسية المتميّزة لهذه التحالفات جزءاً من استراتيجية العلاقات العامة المصمّمة لاسترضاء الجهات المانحة الخليجية المعنية أساساً بوزن المستفيدين والتزامهم العقيدي. لكن من وجهة نظر عسكرية بحتة، لم تكن هذه التحالفات عديمة الجدوى، لأنّها تعمل على توحيد المجموعات التي غالباً ما تكون مبعثرة على امتداد سورية، ما يحدّ من إمكانية تعاونها على الأرض.
لم تكن هذه مشكلة مستعصية، طالما كان يبدو أنّ قوّات النظام تنهار. لكن، مع انقلاب المدّ طيلة العام 2013، أصبح التآزر التكتيكي على مستوى المحافظات بين مجموعات من إيديولوجيات مختلفة مسألة بقاء بالنسبة إلى الفصائل. بدا هذا الاتجاه واضحاً جداً من خلال إنشاء مجلس شورى المجاهدين في المنطقة الشرقية، الذي كان قصير العمر، في دير الزور في ربيع العام 2014. فقد وحّدت هذه المجموعة جميع الفصائل المحلية، من عناصر الجيش السوري الحر إلى جبهة النصرة، ضد النظام والدولة الإسلامية. وكذا الأمر في غوطة دمشق الشرقية، حيث جمعت القيادة العسكرية الموحّدة بين جيش الإسلام السلفي ومنافسه اللدود أجناد الشام، وهو فصيل يقوده رجال دين صوفيون وشخصيات مرتبطة بالإخوان المسلمين. وفي أماكن أخرى، أدّت الضرورات العسكرية، إلى جانب الحزم المتزايد للدول الأجنبية المعنية في سورية، إلى تحالفات محلية شملت الجبهة الجنوبية المدعومة من الولايات المتحدة والأردن، وجيش الفتح في محافظة إدلب، وغرفة عمليات فتح حلب برعاية تركيا وقطر. وهكذا، أصبح نمط دمج الفصائل على امتداد البلاد، والذي روّج له المموّلون السلفيّون في الخليج، بالياً.
خلاصة: ماذا بقيَ من الإرث السلفي؟
إذا ما عدنا بالزمن قليلاً إلى الوراء، سنجد أنّ الصراع السوري مثّل فترة وجيزة لاقتناص الفرص بالنسبة إلى جامعي التبرّعات السلفيين في الخليج، الذين تلاشوا في طي النسيان بالسرعة نفسها التي برزوا فيها إلى الواجهة بدايةً. مع ذلك، لاينبغي التقليل من تأثيرهم على المدى الطويل، فقد كان دعمهم المالي عاملاً رئيساً في صعود الفصيلَيْن غير الجهاديَيْن الرئيسين في سورية، أحرار الشام وجيش الإسلام، ما أدّى إلى ظهور السلفية غير المسبوق في السياسة السورية المُعارضة.
كما تضافر دعم الفصائل المسلحة في سورية مع الجهود الأقل وضوحاً من جانب المنظمات غير الحكومية السلفية الإنسانية والدعوية. وشمل ذلك جمعية إحياء التراث الإسلامي، التي واصلت تقديم المساعدات داخل سورية وخارجها، عبر لجنة إغاثة سوريا، وهيئة الشام الإسلامية المرتبطة بسرور، والتي تزعم أنّها وزّعت أكثر من مليون كتاب ديني، ووظّفت 150 داعية بدوام كامل في جميع أنحاء سورية وفي مخيمات اللاجئين.
كذلك، وسّع رجال الدين السلفيون مواطئ أقدامهم على المستوى الأعلى من النخبة الدينية السورية، التي كانت حكراً على علماء تقليديين يميلون إلى الصوفية. وتجلّى هذا التغيير في الدور البارز الذي تلعبه هيئة الشام الإسلامية في المجلس الإسلامي السوري الذي يتخذ من إسطنبول مقرّاً له، وهو المرجع الديني الأوّل في صفوف المعارضة السائدة والفصائل غير الجهادية. وإلى جانب التلقين الديني الذي تقدّمه الفصائل المسلّحة السلفية نفسها، تشير هذه التطوّرات إلى أنّه تمّت إعادة رسم خريطة الحقل الديني السوري بشكل دائم. ومن المرجّح أن يستمر ازدياد النفوذ السلفي في ما بعد الثورة لفترة طويلة بعد أن تصبح جبهات الفصائل الإسلامية، التي ظهرت في العامين 2012 و2013، حاشية في تاريخ الصراع السوري.
Sorry Comments are closed