تتوارد الصور التي تلخص تلك العقيدة باختصار شديد وهي لطناجر الألومينيوم المحررة في مخيم اليرموك الفلسطيني بعد أن تم تخليصها من الإرهاب وصارت صديقة بالكامل، حيث حررها “حماة الديار” على دفعتين أولاهما من سطوة الطعام وقرع الجائعين على جوانبها خلال سنوات الحصار السبع، والآن تحرير من استعباد المطابخ والخزائن والرفوف بأن حيدوا الأخيرة مطلقين العنان لطناجرنا، فذاك الجيش العقائدي صاحب أبشع المذابح في القرن الحادي والعشرين والذي دخل التاريخ المظلم من أكثر زواياه دموية رفقة جيوش غزاة وطغاة اشتهرت بالجريمة والبطش والإرهاب المنظم ضد المستضعفين، تميز بسخف العقيدة المبني عليها وهشاشتها بذات مقدار عبوديتها للرأس العفن ووضاعة الحصاد المجتمعي خاصتها، بحيث تقوم على الدمج بين الدناءة وسادية القاتل في تطبيق عملي لـ”غطرسة الوضيع” تثبيتاً منه لأركان الكراهية الأبدية بجميع أشكالها وأنواعها.
إنه “الجيش العربي السوري” كما يسميه أنصاره وشبيحة قواته الرديفة وكثيرون منهم يشاهدون بأم أعينهم نهب بيوتهم في مخيم اليرموك الفلسطيني وبقية مناطق الجنوب الدمشقي على أيدي حماة ديارهم المفترضين والمقاومين النظريين، بعد تسلم تلك المناطق من تنظيم داعش ضمن اتفاق سري جرى بين الجانبين بشكل مفاجئ قبل عدة أيام في أعقاب حملة عسكرية متوحشة دمر خلالها جيش الوطن ثمن مساحة دمشق العاصمة في ثلاثين يوماً وتمكن من مسح ذاكرة ثلاثة ملايين من أبنائها من سوريين وفلسطينيين، ثم نقل معركته العقائدية من السياج المحيط إلى الداخل، ليعود معها إلى الواجهة أحد أقذر أسسه البنيوية المعروفة بـ”التعفيش”.
هذا الأساس الذي ترسخ خلال احتلال جيش الأسد الأب لبنان لثلاثين عاماً، وبعد ارتكابه مجزرة حماة في 1982 ونهبها في أعقاب القتل والتدمير دون وازع أو رادع، وما تلا ذلك من جرائم وانتهاكات بحق السوريين والفلسطينيين واللبنانيين طيلة العقود الماضية وصولا ًإلى تعفيشه أملاك الشعب السوري انتقاماً من ثورته المطالبة بالحرية والكرامة، وكل السابق مثل بنية جيش مجرد من جميع القيم والأخلاق الآدمية ومفصول انفصالاً تاماً عن حقيقة الشعب السوري المسالم والمتعايش، فأنشأت له عقيدة ومفاهيم مزيّفة وشاذة عن عقيدة معظم الجيوش والقوى المسلحة البشرية، حتى بات أسوأ من أن يوصف بأنه جيش نازي ذو “صليب معقوف” وعقيدة معقوفة، أو جيش صهيوني لبنته الأساسية عصابات الإرهاب والجريمة باعتباره عصابة حيوانية (أسد ووحوش) فيها من المفترسات ما يكفي.
وعقيدة العصابة تلك تتلخص اليوم لدى معظم السوريين بمن فيهم قسم لا بأس به من الموالين بـ”التعفيش”، وفي نبذة سريعة يرى الدارس أن التعفيش عبارة عن كبت جنسي يفرغه “المعفشاتي” وهو جندي أو متطوع أو شبيح على صورة فتاة وضعت بوسترا على دزينة كلسات سرقها من متاجر مخيم اليرموك أو حلب أو الغوطة، وحذاء من نوع رين أبيض اللون مسروق من بسطة في سوق الجمعة وسط دمشق أو “شحاطة مرحاض” مسروقة ينسب إليها اللقب الرفيع “جيش أبو شحاطة”، بالإضافة لماكينة حلاقة مسروقة من مجند في المهجع المجاور لمهجع المجند موضوع الدراسة، وأبواب خشبية وسيراميك مطابخ وحمامات وصنابير مياه مخلعة وسكك برادٍ ونعال غرف مقبوعة عن بكرة أبيها وملقاة في سوق “الحرامية” منذ أول أيام احتلال لبنان إلى آخر لحظات استباحة الغوطة واليرموك والحجر الأسود في سيناريو يشبه ما كتب عن استباحة جيش المغول لبغداد وشيء من الروايات الدينية عن استباحة يأجوج ومأجوج للبلاد والعباد.
ومن غير المنطقي خلال هذا الإيجاز حول لصوصية حماة الديار إغفال حقيقة أنهم يعتبرون كل أرض تطؤها أقدامهم النجسة مزرعتهم الخاصة بما فيها من بشر وحجر وغسالات وبرادات وكابلات نحاس وخزانات مياه و”أظانات” وسجاد مساجد ورخام مقابر وأعضاء موتى وأجهزة مستشفيات وحواسيب وراوترات ودواليب سيارات وووو … إلخ إلخ..
ويشار هنا إلى وجود كتائب متخصصة في هذا الجيش العقائدي للفرز والتعفيش والنقل والتسليم والإتجار بالممتلكات والأعضاء البشرية على اختلاف أنواعها وأشكالها، والسالف ذكره ليس من قبيل التهكم وهي ليست تجاوزات فردية لكل شبيح على حدة بل تجري بشكل منظم وممنهج يشبه إلى حد كبير ما تفعله عصابات المافيا حول العالم. وتنسجم مع جرائم القتل والاغتصاب وحرق الأحياء وتعذيب المعتقلين بحيث يتم تزييف كل ما سبق وادعاء أنه مجموع من بطولات هي في أصلها صفحات سوداء محفورة في تاريخ الإرهاب الدولي تحكي قصة آل الأسد وجيشهم وميليشياتهم.
وبالانتقال إلى سايكولوجيا “العفّيش” أو “المعفشاتي” المتولدة من تعبئة الجيش العقائدي، فيبدو أنها سخيفة للغاية تعكس دنو نفسه حين يرى طناجر الألومينيوم غنائم حرب يحق له المتاجرة بها عنوة عن أصحابها أبناء بلده، ما يبين حجم الإذلال الذي يجبر فيه الضباط عناصرهم على هكذا سرقات، وحجم الفساد المجتمعي الناشئ عن عقيدة حماة الديار خلال أربعة وأربعين عاماً من الاحتلال سوريا وشعبها، ويطرح تساؤلات حول جدوى تأييد سيد الوطن في ظل هذا الجوع.
ومن الوقاحة أثناء القيام بتزوير المفاهيم الآدمية أن يصير “العفّيش” شهيداً عبر وسائل إعلام النظام حين ينفجر به براد مفخخ كان يسرقه من أحد المنازل المدمرة أو حين يموت برصاص زميله اللص التابع لضابط آخر بعد خلاف على السرقات بينهما.
وبالرجوع إلى مخيم اليرموك الذي لا يعد فاحش الثراء مقارنة بحلب وحمص المعفشتين، فقد باتت الشوارع والبيوت المنهارة ملعباً للتعفيش الأسدي على مرأى ومسمع الشبيحة الفلسطينيين من أتباع الفصائل الموالية ومرتزقة الميليشيات الرديفة، ويكشف ما جرى فيه من جرائم خطف وقتل لأبنائه وتدمير بشتى أنواع الأسلحة الأرضية والجوية وصولا إلى سرقة مقتنيات أهله العقيدة الوضيعة لجيش الأسد التي تبيح له الإتجار الاقتصادي والسياسي بقضية فلسطين في سياق تجارة الحرب، في الوقت الذي يفترض فيه أن تكون غنيمة المحارب هي ممتلكات عدوه المفترض “داعش” لا ممتلكات أبناء المخيم الذين يدعي دفاعه عنهم وعن قضيتهم، أو ممتلكات القلة منهم التي قاتلت معه وخانت جلدها لتشهد اليوم على تعفيش بيوتها وتدمير مخيمها تحت زور مسمى “التحرير”.
هناك في اليرموك تحرق كابلات الكهرباء لاستخراج النحاس منها وتجرى صفقات البيع والشراء على أطلال الشوارع والبيوت أمام أعين الأهالي الذين يسمح لهم بزيارات خاطفة تحمل معها مزيجاً من الغبن والقهر.
والحقيقة تقول إن السماح بتوثيق عمليات التعفيش وتصوير أطلال “عاصمة الشتات الفلسطيني” فيما يشبه إلى حد كبير “الزنا بالميت أمام أهله” ليست عفوية أو اعتباطية بل هي رسائل تنم عن كمية الحقد الدفين من نظام الأسد وجيشه المجرم ضد أهالي المخيم تماشياً مع حقد آرئيل شارون عليهم انتقاماً لتغذيتهم الكفاح الفلسطيني المسلح في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ورداً على احتضانه المعارضين والفقراء السوريين منذ سرقة حافظ الأسد لسوريا ووقوفهم مع أخوتهم السوريين في ثورتهم العادلة.
وكل ما يرغب به الأسد اليوم منع الفلسطينيين من أي تفكير بالعودة المستقبلية إلى مخيمهم بعد كل هذه الاستباحة التي ما كانت لتكون لولا ضوء أخضر “إسرائيلي” أميركي روسي بتناغم مع “صفقة القرن” المطروحة على الطاولة والتي بدأت بإعلان القدس عاصمة لـ”إسرائيل”.
ومن يدري فقد تأتي خطوات أكثر قبحاً من استباحة الخطوط الحمراء وتزييف المفاهيم وتعفيشها من قبل الأسد وبقية المجرمين، المقصود من ورائها جميعاً قتل الأمل في نفوس شعوب المنطقة وعزلها عن أي محاولة لاستعادة حقوقها المعفّشة.
ويبقى علم فلسطين الشاهد الشهيد على بطولات الجيش العقائدي المعادية للفلسطينيين، وتبقى طناجر أهالي اليرموك وأمعاء شهداء حصارهم كريمة في الجوع والشبع، فيما تنسلخ كل معاني الكرامة والإنسانية عن وجوه “المعفّشين” وملامحهم. وهنا يسأل الفلسطينيون أنفسهم: ماذا سيعفّش جيش الأسد لو أعلن تحرير القدس والمسجد الأقصى ذات يوم؟!
عذراً التعليقات مغلقة