لن أتحدث عن مرحلة الثورة، لأن صكوك الغفران لكل الفظاعات وكل الجرائم التي ارتكبها نظام الإجرام الأسدي جاهزة لدى جماعة “كنا عايشين” لكي يرفعوها في وجهنا، فشخص واحد يقتل تحت جناح الثورة ولو بالخطأ، يعادل نصف مليون شهيد ماتوا تحت التعذيب في أقبية نظام الأسد، ودولار واحد يسرقه لص هو بالأساس حرامي ما قبل الثورة، تعادل ملايين الدولارات التي تذهب إلى جيوب آل الأسد يومياً من النفط فقط، وقِسْ على ذلك.
لكني سأتحدث عن الفترة التي “كنا عايشين” فيها كالأنعام.
كنت في كراج حمص العدية، وكانت بيدي “سندويشة” فلافل آكلها، أقبلت من بعيد سيدة عجوز ومعها شاب في مقتبل العمر، الفقر المدقع واضحٌ جداً لدرجة أنه كان ملفتاً لكل من كان قريباً منهما، وذلك من خلال ملامح ملابسهما المهترئة، وكيس النايلون الكبير الذي يحمله الشاب ويضع فيه حاجياته، العجوز بالكاد تمشي بخطوات منتظمة إلى جانب الشاب، ولكي أكون واضحاً أكثر كانت ملابس العجوز تدل على أنها مسلمة “سنية” من قرى الريف، فجأة ظهر عنصر المخابرات أمامهما وصاح بلكنته (العلوية) “ولاك هنت شو معك بالكيس”، وبينما كان الشاب ينزل الكيس ويحاول فك الخيط المعقود عليه لكي يفتحه، أغار عنصر المخابرات على الفتى – مثل الوحش الجائع – وراح يضربه بيديه ورجليه بعنف شديد، وبدأت السيدة العجوز تصيح وتستغيث، وعنصر المخابرات لا يبالي لاستغاثات العجوز وتوسلاتها، ولم يكتفِ بضرب الفتى المسكين بيديه ورجليه، بل أخرج مسدسه من على خصره، وراح يضرب الشاب بأخمص المسدس على رأسه، العجوز تبكي و تستغيث، ونحن جماعة “كنا عايشين” وقفنا نتفرج، وبعد أن أفرغ المجرم شحنة حقده في جسد الشاب، قام وتركهما، وترك الكيس مغلقاً ولم يفتحه ولم يفتشه، حملت العجوز والشاب قهرهما وفقرهما وغادرا الكراج، في حين عدت لألتهم بقية “السندويشة” التي لا تزال بيدي.
بينما “كنا عايشين” كان هناك في سجن تدمر عشرات الآلاف من خيرة الشباب السوري، وعلى مدار أكثر من عشرين عاماً، كانوا يعدمون يومياً، شهيداً بعد شهيد.
سجن تدمر كما يقول معظم الناجين منه، كان عبارة عن أكاديمية جامعية متميزة، لكثرة الشهادات الجامعية بين المعتقلين، وكانت نسبة الأطباء والمهندسين هي الأكثر بينهم.
لا أريد أن أسهب أكثر فالحديث في هذا المجال يحتاج إلى مجلدات كبار ولا ينتهي. لكن الحقيقة أن أخطر عدوين تعرضت لهما الثورة السورية هما خدعة الإرهاب التي اخترعوها لتبييض وجه النظام الأسود، وجماعة “كنا عايشين” الذين يحاولون تنظيف أيدي النظام الملطخة بدماء ملايين الأبرياء.
وكما يقول المثل “الحيوانات تعيش لكي تأكل” بينما الإنسان “يأكل من أجل أن يعيش”، يعيش من أجل أن يؤدي رسالة الخلافة التي كلفه بها الله عز وجلّ، بأن يعمر الأرض بالخير والمحبة والعدالة.
عذراً التعليقات مغلقة