الصور التي تتوارد من مخيم اليرموك، وتُظهر قوات الأسد وهي تنهب كل ما يمكن نهبه وسط الدمار بعد إجلاء داعش بأمان، ليست الصور الأولى لهذه القوات وهي تنهب مناطق سورية. لقد رأينا ما يشبهها قبل مدة قصيرة في الغوطة الشرقية، ومنذ بداية الثورة واقتحام تلك القوات لمناطق ثائرة عرف السوريون تسمية لم يكونوا على دراية بها هي: التعفيش. يلزم التنويه بأن تسمية “التعفيش” هي اشتقاق أسدي يُقصد به نهب أثاث البيوت كاملاً، باستثناء الجدران والسقوف في حال لم تكن قد تهدّمت بفعل القصف، وفي حالة اليرموك مؤخراً خرج إلى التداول تعبير آخر هو “التنحيس”، يُقصد به السطو على أسلاك التمديدات الكهربائية بغية صهر النحاس الموجود فيها وبيعه. سرعة اشتقاق وتداول هذه التسميات تدل على وجودها المبيّت في مكان لم نكن على دراية به، ورغم السمعة شديدة السوء لقوات الأسد لم نكن على علم بذاك الاستعداد اللغوي الموازي للاستعداد العملي للقيام بأشد عمليات السطو والنهب انحطاطاً في التاريخ.
وكي لا تُفهم الجملة الأخيرة على محمل الإنشاء يلزم التأكيد على مضمونها، فعندما نقول أنها عمليات السطو والنهب الأشد انحطاطاً في التاريخ فلأننا على معرفة بما يمكن تسميته “تاريخ الاستباحة” أثناء الحروب، وأهم ما في هذا التاريخ انتماؤه إلى مرحلة من التوحش تجاوزتها البشرية. نعم، لقد شهدت العصور الحديثة من أرقام القتل والإبادة ما لم تشهده العصور القديمة، بفعل التطور التكنولوجي ليس إلا، أما المفاهيم التي تتعلق بحماية المدنيين وممتلكاتهم فقد تطورت في الوقت نفسه رغم الانتهاكات التي تعرضت لها هنا وهناك. إن شخصيات مثل هولاكو وتيمورلنك ستشعر بالخزي والعار أمام صور النهب الذي تقوم به قوات الأسد والذي يعبّر أشد تعبير عن تنظيم الأسد وموالاته وحماته، فهولاكو وتيمورلنك وأمثالهم شخصيات تنتمي لثقافة عصرها بخلاف الهمجية التي نشهدها اليوم، الهمجية التي جعلت من أمثولة نيرون قصة لطيفة جديرة بأن تُحكى للصغار قبل النوم.
واستخدام أسوأ الألفاظ لا يُعدّ هجاء، هو من أوجه القصور اللغوي أمام الفظاعة التي نواجهها. الفظاعة التي، رغم قسوتها، تكاد تضحكنا أحياناً لأن الهول الذي فيها يتخطى احتمالات الخيال. لا يمكننا مثلاً من قبل أن نتصور دراجة نارية محمّلة بهذه الكمية الضخمة من الأثاث، وسنعجز عن تخيّل زميل لذلك اللص وهو يحمل أجهزة كومبيوتر ثابت يناهز عددها أصابع يديه! وقبل هذه المقدرة الإجرائية قد تعقد الدهشة قدرتنا على التفكير إزاء الاستعداد الشره إلى السطو على كل شيء، بما في ذلك أقل ما نتصوره نفعاً تجارياً. لا يُعقل إطلاقاً أن يكون هذا نتاج الصراع الذي بدأ مع الثورة، لا بد أن يكون أصحابه قد تشرّبوه حتى ارتووا أثناء خدمتهم في المصنع الأسدي، وقد لا نجافي الواقع إذا قلنا أن تلك الكائنات المتوحشة كانت تزمجر في أقفاصها في انتظار هذه اللحظة.
لقد قاتلت هذه الكائنات وحلفاؤها السوريين تحت شعارات انتقام تعود إلى 1400 سنة، ونهج الاستباحة الذي تعتمده مطابق زمنياً لشعاراتها. لكن، حتى بهذا المعنى، سيبدو داعش تنظيماً ذا رؤيا بخلاف تنظيم الأسد، فما عدا استعراضات الذبح التي قام بها داعش لم يقم بعمليات سطو ونهب على هذا المستوى من الخسّة، وبصرف النظر عن المساهمات الاستخباراتية في صناعته فقد قدّم نفسه مشروع دولة وتصرّف على هذا الأساس. المفاضلة التي كان يروّج لها النظام على قاعدة “أنا أو داعش” ستكون خالية من أية إيجابية لصالحه، فداعش الذي دخل المخيّم “أثناء حصار مطبق من قوات الأسد!” غادره بأمان لتكون الاستباحة من نصيب المخيم نفسه وليظهر العداء في موقعه الأصيل.
مع ذلك سيكون من الخطأ التوقف فقط عند الملمح الطائفي الذي يسهّل الاستباحة، فقد شهدنا حالات أخرى من إمارات الحرب السورية، لم يتورع أصحابها عن عمليات السطو والنهب، وإن كانت لا تقارن بأكاديمية التعفيش الأسدية. ومن الخطأ أيضاً عدم التوقف عند ما يُسمى “الجيش السوري”، كفكرة وكتاريخ، ومجمل أداء هذا الجيش منذ الاستقلال. تجرؤ قوات الأسد على السوريين، كما شهدنا خلال سبع سنوات، قتلاً وتدميراً وتهجيراً، يستلزم جرأة فكرية موازية تحسباً للمستقبل، إذا كان هناك من مستقبل للسوريين معاً.
يُحكى أن حادثة كان لها دور مؤثر في أول انقلاب على الرئيس شكري القوتلي، فالرئيس آنذاك قام بزيارة مفاجئة للجيش، ودخل مطبخ إحدى الوحدات العسكرية ليرى بعينيه ما يُعدّ لإطعام الجنود، وليخمّن السرقات التي كان يقوم بها قادة الجيش. الفكرة الأساسية حينها أن أولئك القادة لم يكونوا ليسمحوا لرئيس منتخب ديموقراطياً بأن يكون له سلطة الرقابة على فسادهم، وأنهم ضمناً كانوا يرون أنفسهم سلطةً فوق السلطة المنتخبة، أي سلطةً فوق قرار الشعب السوري. البعث أدرك هذه الحقيقة ووضع السيطرة على الجيش في طليعة أهدافه، وضمن البعث أدرك حافظ الأسد ذلك وترك المهام الحزبية والمدنية لرفاقه متفرغاً لوزارة الدفاع، وإذا كان الجيش الحالي نتاج سيطرة عائلة الأسد منذ ذلك الوقت فهذا يدل على أن ما بُني أصلاً على أسس خاطئة سهل استثماره لاحقاً من قبل هذه العائلة.
الذين يطالبون بالحفاظ على “الجيش العربي السوري” يعرفون الحقيقة كاملة، ويستهدفون تحديداً الحفاظ على دور قوات الأسد كعدو للسوريين، والذين يلجؤون إلى المواربة ويفصلون بين “الجيش” وبين عائلة الأسد مطالبين بتبرئة “الجيش” من الجرائم يعرفون أن قادة هذا الجيش هم خريجو أكاديمية الأسد المخلصين، ويعرفون قبل أي شيء آخر أن استمرار الجيش على هذا النحو يعني بقاء النظام والقضاء على أي مستقبل ديموقراطي. يبقى أولئك الذين يتوهمون الإبقاء على الجيش مع إعادة هيكلته ونزع سيطرة الطغمة القديمة عنه، وهذا ما تطرحه المعارضة عموماً مع التأكيد على أهداف مغايرة للجيش الجديد. والحق أن هذا التفكير لا يملك قسطاً من الجرأة التي تستلزمها الحالة السورية، وتستلزمها تحديداً الحالة التي ظهرت عليها قوات الأسد، وعلى نحو مخفف الحالة التي ظهر عليها غالبية الذين حملوا سلاحاً خلال السنوات السبع الأخيرة وامتلكوا مع السلاح وهم السلطة المستدامة.
لعل واحداً من مظاهر الواقعية اليوم أن يصل عدد متزايد من السوريين إلى القناعة بضرورة سحق هذا الجيش، بمعنى تسريح نواته الأساسية سواء على صعيد الأفراد أو الفرق والألوية، والاكتفاء بقوة رمزية لا تشكل تهديداً للسوريين وقرارهم المدني الديموقراطي. هذا يبدو شرطاً ضرورياً للولوج إلى مرحلة من التحول الديموقراطي على أرضية صلبة، أرضية لا تبقى مهددة بحملة السلاح كما حصل منذ الاستقلال، ولا يبقى فيها السوريون ينفقون جزءاً معتبراً من ناتجهم القومي على جيش لن يحارب سواهم. الحديث عن ضرورة وجود جيش للتصدي لأعداء خارجيين هو الآن بمثابة النكتة التي لا تضحك أحداً، فتاريخ الهزائم أمام إسرائيل يكفي للاستيقاظ من هذه الأوهام، وحقيقة أن سكان الجولان المحتل هم الوحيدون الذين نجوا من المحرقة الأسدية كافية لصفع من ينام على مقولات الممانعة، أما صور مخيم اليرموك المدمر والمُستباح أمام قطعان اللصوص المسماة جيشاً فلم يشهدها جيل النكبة من عصابات الهاغاناه والشتيرن وإرغون. نعم، لعل حالنا مع أفضل فرضية لبقاء هذا الجيش أشبه بمن يشتري السمّ وينتحر خوفاً من جاره البلطجي!
عذراً التعليقات مغلقة