التشيّع في سورية “بين الماضي والحاضر”
أحمد بغدادي
(3)
في عام 1979 ومع وصول أهل العمائم ــ الملالي ــ إلى سدّة الحُكم في إيران، كانت علاقة النظام السوري مع الإيرانيين حذرةً جدّاً، ولها نمطٌ معيّن ودقيق، عبر وساطة “شيعية” مرجعية مثل الإمام موسى الصدر في لبنان، أو بشكل غير مباشر من خلال تكتّلات دينية “علوية ” تقوم بزيارات متبادلة مع وفود إيرانية تابعة لعباءة ولاية الفقيه؛ حيث إن “حافظ الأسد” كان متوجّساً من كل شيءٍ حوله، ولا يثق بأي مشروع سياسي أو ديني أو اقتصادي يخصّ سورية إذا لم يكن هو صاحب القرار والقيادي والمخطط له.
فالأسد كان يرى بمشروع الخميني ــ ولاية الفقيه ــ مشروعاً أصولياً يهدّد تطلعاته في المنطقة وخاصةً في لبنان، أما الخميني، لم يعلنها مباشرةً في بعض الأحيان، أنّ حزبَ البعث هو حزب كافر ولا يجب التعامل معه؛ إلا أنّ ذلك لم ينطبق على حزب البعث السوري بقدر ما كان جليّاً بعداوته لحزب البعث الحاكم في العراق.
إن العيون المترقّبة لرجال الدين “السنّة ” في سورية وخارجها، والأقاويل التي أخذت تنتشر بعد اغتصاب حافظ الأسد حكم سورية، على أنّ الأخير لا ينتمي إلى الإسلام كونه من الطائفة العلوية، أربكت حافظ الأسد وهزّت كيانه لوجود مادة في الدستور السوري تنصّ على أن دين رئيس الدولة الإسلام، ما دفع بهِ للّجوء إلى صديقه المقرّب الإمام الصدر ليصدرَ فتوى في تموز 1973 تزعم أنّ العلويين مسلمون وهم رافد من الطائفة الشيعيّة.
البعث السوري ورجالات الدين الشيعة
تحت ذريعة تدريس المذهب الجعفري قام الصدر بمناورة خطيرة أمام صفوف أهل “السنّة” في مصر الذي كان يذهب إليها لحضور مؤتمرات (التقريب بين السنّة والشيعة) في الأزهر، سانداً ظهره على الشيخ محمد شلتوت القائم على الأزهر في تلك الحقبة، وهو صاحب الفتوى الغامضة التي تعتبر مذهب الشيعة الإثنى عشرية مذهباً كباقي المذاهب السنّية الأربعة.
الإمام الصدر الذي أفتى للأسد وقام بتشييع جماعات من العلويين في لبنان وسورية نزولاً تحت رغبة قائد “البعث العلماني” لتلاقي المصالح ودعم الطرفين في كسب مؤيدين وتجهيز تربة خصبة لمشاريع مستقبلية “طائفية”، شهدَ عليه الكثير من المقربين له بأنّه كان يتّبعُ سلوكاً لا يمت بصلة إلى رجال الدين، حيث كان “يشرب الدخان والنرجيلة” ويدعم زراعة التبغ في الجنوب اللبناني ــ مأوى الشيعة ــ ! وغير ذلك هنالك قصص تروى على ألسنة أقرب الناس إليه أمثال “هاني الحسن ” القيادي في حركة “فتح” الفلسطينية بأن الصدر إبان اعتكافه (اعتصامه) في مسجد “الصفا” بمنطقة العاملية في يونيو/ حزيران 1975 لاحتجاجه على الحرب في لبنان، كان يطلب منه الطعام والشراب ــ الويسكي ــ بذريعة أنه غير صائم ..!
بعد “الانتفاضة الشعبانية ــ الشيعية” عام 1991 في العراق غادر عددٌ كبير من النشطاء السياسيين ورجالات الدين الشيعية البلاد إلى سورية. وتمركز أغلبهم في منطقة “السيدة زينب” جنوبي دمشق ما أعطى تلك المنطقة زخماً شيعياً أكبر، فخرجت شخصيات “شيعيّة دينيّة” مثل “عبد الحميد المهاجر” الذي نشطَ بالعمل التبشيري داخل دمشق وأريافها مدعوماً من رؤساء أجهزة الأفرع الأمنية وقتها وبموافقة رأس النظام. وقد خصص له برنامج على التلفزيون السوري ينشر عبره التشيّع من خلال “المواعظ والقصص الشيعية” التي تدعو لمحبّة آل البيت؛ وكأنّ أهل السنّة في دمشق وغيرها ــ لا يعرفون من هم أهل البيت، ويناصبونهم العداء ـ!
أما عن المدعو “علي البدري” 1928 ــ 1998 الذي كان ناشطاً قلّ نظيره في تلك الحقبة بالتبشير الشيعي، قد أسّس مراكز تشيّع كثيرة في (اليمن والمغرب والجزائر وتنزانيا وغينيا وسيراليون وهولندا ولندن والسويد والدانمارك) وفي بعض المدن السورية؛ وقد نسّق مع “الحوزة العلمية” في “السيدة زينب” لينطلق إلى عدّة محافظات سورية إضافةً إلى قراها وبلداتها، منها حلب وضواحيها وحمص وضواحيها والحسكة والقامشلي والرقة واللاذقية وضواحيها ودير الزور وريفها، كما حاول التقرّب إلى أبرز علماء وشخصيات تلك المدن والأرياف من خلال الترغيب المادي والمساعدات الغذائية (المواد الأولية) التي كانت تصل إلى بعض أهالي المدن والضواحي والقرى بشكل شهري، علاوةً على ذلك، افتتحَ عشرات المراكز والمكتبات لتدريس ونشر كتب الفقه والعقائد الشعيّة كعادةِ من خلفه بنشر التشيّع من أزلام إيران فيما بعد.
في فترة التسعينيات، بدأت الإشاعات عن “اكتشاف” المقامات الشيعيّة ليتم ترميمها وإعادة هيكلتها وتزيينها. ومن أبرز تلك المقامات “السيدة زينب” بنت “علي ابن أبي طالب” في بلدة “راوية” التي سمّيت فيما بعد باسم السيّدة تيمّناً بالمقام، رغم أنّ كبار محققي التاريخ يؤكدون ويجزمون بأنّ “زينب بنت علي” ماتت في المدينة المنوّرة ودفنت في “البقيع”، وما اختلقه الشيعة على أنّ مقامها في دمشق، هو مجرّد خيال ولهم من ورائه مآرب أخرى. أيضاً، مقام “السيدة رقيّة” في “حي العمارة” الدمشقي و”حجر بن عدي” في منطقة “عدرا” ومقام “السيدة سكينة” في داريا الذي تم اختراعه على غرار مقام السيدة زينب في عام 1999 حين استيقظ أهالي داريا ليجدوا لافتة كتب عليها “مقام السيدة سكينة” بالقرب من مبنى البلدية.
إن العلاقات التي ربطت دمشق بطهران وما كان عليه من تحالف استراتيجي بين البلدين منذ عام 1980، جعل من إيران نشطة مع أزلامها في العمق السوري. إذ إنّ الاحتفالات واللقاءات التي تنظّمها المستشارية الثقافية الإيرانية في دمشق كانت لاستقطاب أكبر عدد من السوريين “المسؤولين” أو غيرهم من العوام؛ فمثال هذه المناسبات (انتصار الثورة الإسلامية في إيران) ــ ( ذكرى استشهاد الحسين بعاشوراء) وغير ذلك من ذرائع وحجج واهية لتمرير المشاريع الخبيثة.
وبعد أن مات الأسد الأب عام 2000 بدأ الضخ الشيعي بشكل أكبر في سورية ومدنها وقراها من خلال ملالي طهران الذين حصلوا على تراخيص وتسهيلات أمنية غير مسبوقة لإقامة الحوزات والحسينيات بدعم مباشر من المرجعيات الإيرانية أو من قبل متبرعين من الخليج تابعين لمشروع ولاية الفقيه.
مراجع:
- كتاب البعث الشيعي في سوريا 1919-2007 / د. عبد الرحمن الحاج
- تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه / أحمد الكاتب.
نهاية الجزء الثالث
لقراءة الجزء الأول: التشيّع في سورية “بين الماضي والحاضر” [1-5]
لقراءة الجزء الثاني: التشيّع في سورية “بين الماضي والحاضر” [2-5]
يتبع ..
عذراً التعليقات مغلقة