لعلّ فقدان الهوية الوطنية وتلاشي الروح الثورية هو أخطر ما يواجهه السوريين في المنفى، والذي يرافقه تغيير ديمغرافي للسكان في المدن السورية التي طرد أهلها منها بخطة دولية وإقليمية ممنهجة ومدروسة، تَنمُّ عن تواطئ المجتمع الدولي بها.
المجتمع السوري الذي تعرض لهزات عنيفة منذ بداية الثورة والحرب المستمرة عليها تركت آثارها على بنية المجتمع السوري والأفراد والأسر التي تشكل نواته، هو ككل المجتمعات عندما تتعرض إلى تغييرات أو ضغوطات معينة فكان لا بدّ أن تتأثر البنية الاجتماعية بشكل أو بآخر بتأثيرات قد تكون إيجابية أو سلبية تطال كل النواحي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية سواء في داخل الوطن أو في بلاد اللجوء والاغتراب.
في الدول التي وصل اليها اللاجئون السوريون ومن خلال تسليط الضوء على السلبيات التي هي موضوع البحث، أكثر ما يستوقفك هو حالة التفكك والتهتك في النسيج المجتمعي السوري الذي تطغى عليه متاهة المفاهيم والرؤى المغلوطة؛ حالة التشظي والانشطار التي طالت بنية المجتمع السوري أدت الى انهدام بنية العقد الاجتماعي المتمثل بالهوية الوطنية كمشروع ثوري جامع نتيجة الاندماج والانصهار في مجتمعات تلك الدول المختلفة والمتباينة بخلفياتها الثقافية والاجتماعية والسياسية، لدرجة ان الانتماء للوطن والحفاظ على الهوية الأم بات جريمة في الغربة نتيجة التأثر بالبيئة المحيطة والاندماج بمظاهر الحياة الجديدة التي يفرضها واقع الحال والمجتمعات والدول المستضيفة.
قد يكون الأمر صعباً بالنسبة للكبار الذين لا يفارق حديث الثورة والعودة لأرض الوطن ولقاء الأهل والأحبة والجيران والأصدقاء أيّاً من أحاديثهم وجلساتهم اليومية، ليظلوا معذبين مقهورين تتأرجح حياتهم بين الانصهار والانتماء؛ أما الشبان والأطفال فيتوقع لهم الانخراط بنمط حياة جديدة تماماً بعيداً عن وطنهم وهويتهم الأصلية وبالتالي نشأة جيل في بلاد اللجوء لا يعرف شيئاً عن وطنه ولغته وهويته الأم مما سيؤدي لطمس عروبة وحضارة تلك الأجيال من السوريين الذين وجدوا أنفسهم خارج موطنهم يجاهدون لتأسيس كيان وفضاء لهم يمكنهم من العيش والاستمرار من خلال تأمين عمل يلبي متطلبات الحياة اليومية، وهذا يفرض عليهم تعلم لغات مجتمعاتها والانصهار فيها ليسهل عليهم ذلك.
هؤلاء الشبان والجيل الناشئ نادراً ما تسمع لفظ سوريا أو ثورة الحرية والكرامة على لسانهم، لكن الطامة الكبرى تكمن لدى جيل الشباب السوري الذي غادر الوطن وقد عاش الثورة بمعظم تفاصيلها وأحداثها، حيث تجد أن الثورة وأهدافها لم تعد من أولوياتهم وتلحظ تلاشي الروح الثورية في أحاديثهم وتصرفاتهم ونمط حياتهم الذي يوحي بتبدل المحتوى الداخلي الذي يتسم بالأنانية بالنسبة إليهم.
وتكاد لا تسمع إلا عبارة واحدة يردها الغالبية العظمى منهم اذا كنت متابعاً مواظباً لصفحات الفيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي الخاصة والعامة “الحق علينا نحن، تركناها بين أيدي الرعاع والمتسلقين وانسحبنا” جملة تقرأها مع كل حدث جديد من أحداث الثورة يكتبها سوريين من مختلف الانتماءات والأهواء والأمزجة يمكنك أن تقرأها في صفحة مفكر عظيم أو معتقل سياسي سابق بلغ من السن عتياً أو في صفحة ناشط أو معلم مدرسة أو مهندس وطبيب وكاتب وفنان أو في صفحات العامة منهم إسلاميين وعلمانيين، سلميين أو مؤيدين للعسكرة، أو في صفحة شتّام ماهر لا يجيد إلا شتم الآخرين وتحميلهم وزر ما حصل، يمكنك أن تقرأها في صفحات الرماديين والعائدين والهاربين الذين وجدوا في افتراقات الثورة ذريعة مناسبة لتبرير موقفهم، لكن الجميع يؤكد بين الفينة والأخرى على ضميره الثوري في منشور صباحي أو قبل النوم، كما لو كان حاملاً هم الثورة التي يعرف تماماً أنها ما كانت لتكون هماً لولا أنه تخلى عنها في لحظة ما، وتركها للمتسلقين يتحكمون في مصيرها ومصير من بقي صامداً ومتمسكاً بالأرض رغم كل الصعاب والأخطار، تلك الجملة ستجدها في صفحات غالبية السوريين الذين حلموا بالتغيير ذات يوم قبل سبع سنوات وأخذتهم الحياة إلى أماكن أخرى بعيدة جداً عن الثورة، أنا وأنت، هو وهي قد نكون من ضمن هؤلاء وقد يقول لنا من بقي صامداً رغم الحصار والجوع والعوز وكل أنواع القتل والتدمير التي يتعرضون لها، إن كنتم مؤثرين لهذا الحد فيحق لنا محاسبتكم على تخليكم عن الثورة وانسحابكم، فمن يترك حصان الثورة وحيداً لا يحق له شتم من يمتطيه.
من هنا علينا أن ندرك جميعاً أننا في المهجر مهددون بهويتنا وانتمائنا وتلاشي الروح الثورية عند غالبيتنا كلما تأخر وقت العودة، إما أن نكمل ونسقط ويسقط من يسير خلف خطانا أو نعود من حيث بدأنا لنصلح شيئاً مما فسد، فما نحن فيه ليس ظاهرة فردية يمكن تخطيها وإنما ظاهرة عامة تفتك بالمزيد من أفراد وأسر المجتمع السوري خاصة في أوروبا وتركيا وباقي البلدان غير العربية، فالحرب والتهجير توأمان في تدمير الحجر والبشر كلما طال الزمن، وقد يقول أحدهم أن مسألة اللاجئين والمهجرين إلى أوروبا وغيرها ليست جديدة، هذا صحيح ولكن ليس بهذا الكم الهائل من عمليات التهجير المنظم والمقصود الذي تقوم به مفوضية الأمم المتحدة والدول الاقليمية المجاورة التي فتحت طريق الهجرة الى كل أصقاع الأرض أثناء الثورة السورية.
يجب أن تدرك الجمعيات والمؤسسات الإنسانية والفكرية والأهلية العربية والسورية في الغرب خطر ذوبان وفقدان الهوية الوطنية بأبعادها العربية والإسلامية والإنسانية، ويتوجب عليها الاضطلاع بمهمة المحافظة ما أمكن على الهوية الوطنية العربية والسورية من خلال الاستفادة من النخب والكوادر العلمية والفنية والمهنية وزجها في برنامج عمل تلك المؤسسات، يضاف إلى ذلك دور الآباء المهم في هذا المجال انطلاقاً من داخل الأسرة، وتوسيع عمل تلك المؤسسات والتأسيس عليها للانطلاق منها كقاعدة تعمل في هذا الاتجاه من أجل عدم الذوبان والحفاظ على قدسية الهوية الوطنية للأسر والأفراد من اللاجئين.
الحرب ما زالت مستمرة والنزوح داخل سوريا ما زال مستمراً والتهجير والهجرة خارج البلاد لا تزال سيدة الموقف لمن يستطيع ذلك بسبب الانفلات الأمني وعدم الاستقرار المعيشي وغياب القانون في مناطق إدلب وريف حلب الشمالي التي وصل إليها النازحون قسراً من الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي والبلدات التابعة لهما.
المخطط الروسي وكذلك الأميركي نافذ، المشروع الايراني مستمر دون عوائق، والمشروع التركي قيد النضوج، كل ذلك يجري في سوريا التي تقاسمتها تلك الاحتلالات أرضاً وشعباً في ظل غياب كامل للسوريين، سواء المعارضة التي لم تستطع أن تشكّل البديل السياسي والعسكري المقبول في المجتمع الدولي، أو النظام البعثي الفاسد الذي أدخل البلاد في نفق مظلم من أجل الحفاظ على كرسي الحكم.
ماذا نفعل كقوى ثورية في ظل هذا الواقع المأساوي الذي بات يهدد وجودنا وهويتنا الوطنية كسوريين في الخارج والداخل؟ هل نبقى صامتين أم أن هذا الشعب ونخبه الحرة ستفرز قوة وطنية ثالثة تعمل على استعادة الوطن والشعب والهوية الوطنية التي أصبحت بخطر محدق؟
هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة التي لن تكون سهلة رغم مرور سبع سنوات عجاف على ثورة السوريين.
عذراً التعليقات مغلقة