لنفترض أن إسرائيل قصفت مواقع لفصائل سورية معارضة قبل خمسة أيام، بدل قصفها مواقع إيرانية غير معلن عنها رسمياً؛ يمكننا التكهن بسهولة بالغة بنوعية ردود أفعال موالي الأسد، وأيضاً أولئك الذين لا يُظهرون موالاة صريحة بينما تنصب جهودهم على شتم المعارضة. ستنطلق جوقة الجمهورَيْن، قياساً على سوابق مماثلة، لتشمت بالمعارضة “العميلة لإسرائيل”، ولتذكيرها بأن إسرائيل أو أمريكا أو سواهما لا يقيمون وزناً للعملاء السوريين بل لن يتورعوا عن قصفهم عندما تقتضي مصالحهم.
الآن، في صورة مقلوبة عن ذاك التصور، القصف الإسرائيلي استهدف المواقع الإيرانية، وهناك نسبة لا يُستهان بها من خصوم الأسد أظهروا شماتتهم به، على الرغم من اعتبارهم إياه محمياً وباقياً برضا إسرائيلي. أما جمهور الموالاة الصريح والمقنّع فقد وجد الفرصة جاهزة لاعتبار أولئك الشامتين خونة، وكأنه اكتشاف جديد مع أن الفئتين واظبتا على توجيه اتهام الخيانة بمناسبة وبدون مناسبة. إعلام الأسد الذي لا يفترق عن موالاته الصريحين والمقنّعين بادر فوراً إلى وصف القصف الإسرائيلي بتقدم الأصيل إلى المعركة بعد خسارة الوكيل، كناية عن فصائل معارضة، وهذه ليست المرة الأولى بالنسبة لتنظيم الأسد الذي دأب في مرات سابقة على الإعلان بأنه سيرد على إسرائيل من خلال ضرب “عملائها” في الداخل.
غني عن القول أن إسرائيل تتصرف بمعزل عن هذا الجدل السوري المحلي، وسلوكها إزاء الصراع السوري تحكمه المصالح التي لا تقتصر على سوريا وحدها، وإنما تتخطاها إلى موقع إسرائيل في مجمل خريطة النفوذ الإقليمية. وغني عن التذكير أن مشكلة إسرائيل مع الأسد محصورة الآن في النفوذ الإيراني عليه، مع تلميح قادتها إلى القدرة على إسقاطه إذا بقي متمسكاً بالوجود الإيراني. وأن تكون إسرائيل مستفيدة من الصراع السوري فذلك أمر منطقي، مع توخي الحذر في تضخيم تلك الاستفادة لأن القدرات العسكرية السورية في أوجها لا تُقارن بالترسانة العسكرية الإسرائيلية، وقد ظهر جلياً خلال السبع السنوات الماضية أن قوات الأسد معدّة أصلاً لمواجهة الداخل الذي لم يمتلك ترسانة من الأسلحة المتطورة، وفشلها في هذا الاختبار يدل على قدرتها إزاء إسرائيل.
تهمة العمالة لإسرائيل التي يتقاذفها سوريون فيما بينهم تعني أمراً واحداً هو أن السوري هو إسرائيلي السوري، وهنا يُستحضر العداء لإسرائيل بوصفه بديهية مشتركة لدى الطرفين، وأيضاً بوصفه العداء الأمضى والأشد، من أجل التعبير عن حجم العداء بينهما. إسرائيل هي المجاز والكناية، أما العداء بين طرفي الصراع السوري فبات يرقى إلى مستوى معاداة إسرائيل عندما كان الصراع معها يوصف بأنه صراع وجود. التأسّي على زمن كانت فيه إسرائيل العدو الذي يحتل تلك المكانة لا معنى له في الواقع، وغالباً يأتي هذا التأسي من فئات تحنّ إلى زمن ما قبل الثورة، وهو زمن لا تحتل فيه إسرائيل مرتبة العدو إلا شكلياً ولغايات تخدم بروباغندا الأسد.
السوريون ليسوا حالة خاصة، وما كان غير مفهوم من قبلهم سابقاً ربما بات مفهوماً. مثلاً كان السوريون بنسبة غالبة يستغربون وجود لبنانيين تعاملوا مع إسرائيل أثناء الحرب الأهلية، وكان منهم نسبة كبيرة جداً استنكرت ما سُمّي آنذاك “مجيء المعارضة العراقية على ظهر الدبابات الأمريكية”. مجريات الصراع السوري يُفترض أن تكون قد طوت صفحة الوعي السابق، فموالاة النظام رحبوا بكافة قوى الاحتلال التي دخلت سوريا لإنقاذ سلطتهم، وفصائل المعارضة تلقت الدعم من العديد من القوى الإقليمية، وإلى حد كبير كانت الإمدادات تدخل بإشراف غرفتين للمخابرات الأمريكية جنوباً وشمالاً. بصرف النظر عن أحقية أي طرف منهما ذلك يعني عدم وجود عدو مشترك، وهذا أمر منطقي عطفاً على الانقسام الحاد جداً، أو بالأحرى عطفاً على الصراع الذي اتخذ طابعاً وجودياً منذ بدأ تنظيم الأسد حرب الإبادة بمواكبة من موالاته.
ربما يلزم أن نذكّر بخطابات الموالاة التي رافقت مستهل الثورة، وكانت تدعو إلى إبادة مناطق بأكملها، كان التعبير الأثير لدى الموالاة هو تسوية المناطق الثائرة وزرعها بالبطاطا! هذه الخطابات تتفوق حتى على خطاب معاداة إسرائيل الذي استقر منذ السبعينات على المطالبة بسلام عادل، بعد طي صفحة العنتريات التي تتوعد برمي الإسرائيليين في البحر. بمعنى آخر سيكون من اللغو اتهام المعارضة بالعمالة لإسرائيل وكأنه كبرى الخطايا، بينما لا يبلغ العداء لإسرائيل في صفوف الموالاة “إذا كان موجوداً الآن حقاً” سوى مرتبة متدنية جداً، وعلى الأرجح مرتبة تتعلق بموقف إسرائيل من بقاء الأسد أو رحيله لا أكثر.
العدو، بالتعريف البسيط، هو الوطن أيضاً، إذا كان لا بد من عدو. إذ من دون وجود وطن مُتفق عليه بين مواطنيه لا وجود لعدو مشترك، ومن سمات الحروب الأهلية عبر التاريخ عدم الاتفاق على ترتيب أولويات العلاقة مع الخارج، ومن سماتها أيضاً عدم وجود سياسة خارجية متفق عليها ولا عدو مُتفق عليه لانتفاء وجود سلطة واحدة مُتفق عليها أصلاً. فكرة التخوين تعود بجذورها إلى وجود وطن ووجود عدو، إلا أن معناها الحديث يتلازم غالباً مع الفاشيات التي تحتكر مفهوم الوطن والعدو معاً، فلا يقوم الوطن معها على أسس المواطنة، ولا تُقرّ السياسات الخارجية بطريقة ديموقراطية تكفل للمواطنين تحديد العدو والوسائل المناسبة للتصدي له.
الصراع السوري الحالي، الذي بدأ سياسياً بحكم شعارات الثورة، سرعان ما نقله الأسد ليصبح صراع وجود ضمن المجتمع السوري، وهذا يعني حكماً انتهاء مفهوم الوطن وانتقال العدو ليصبح داخلياً. هذا التحول المفهومي سيتعزز بسياسات الإبادة والتهجير، مع التنويه بأن هذه السياسات لا تهدف إلى تحقيق نصر بالمعنى السياسي المتداول، وإنما تهدف إلى تصفية الخصوم تماماً كما طالب موالاته منذ البداية. إن أفظع ما هو مُتخيَّل عن إسرائيل قد حدث بين السوريين أنفسهم، وحدوثه بهذه الوحشية لا يعني تبرئة إسرائيل من جرائم مماثلة بقدر ما يعني تنحية العداء معها من قبل جانبي الصراع.
المزايدة باسم الصراع مع إسرائيل، سواءً أتى من مؤيد صريح أو مقنّع أو من معارض يعتبر هؤلاء عملاء لإسرائيل، سلوك أقرب إلى النفاق ضمن الظروف الحالية، لأن أحداً من هذه الفئات لا يضع مواجهة إسرائيل في قائمة أولوياته، ولأن الجميع يدرك جيداً انتهاء زمن الجعجعة السابق. إذا بقيت سوريا موجودة وموحدة فستكون بلداً ضعيفاً وبحاجة إلى عقود كي يرمم الخسائر البشرية والمادية، ومن السخف الظن بأن بلداً في مثل هذا الوضع سيكون قادراً على خوض أية حرب.
بالتأكيد عدم القدرة على المواجهة لاسترجاع الحقوق لا يعني التفريط بها سلفاً، ولا يعني أن إسرائيل صارت في مرتبة الصديق، حتى إذا لم يتعلق الأمر بحقوق سورية واقتصر على مناصرة حقوق شعب آخر هو الشعب الفلسطيني. لكن ما قد يكون مفيداً في النقاش السوري إخراج إسرائيل من التداول كمجاز لعداء أعمق يقسم السوريين، ومواجهة صراعهم من دون توريات ومزايدات وباستخدام توصيفات صريحة، إذا لا معنى لأن يكون السوري إسرائيليَّ سوري آخر ما دام السوري الأول يرى الإسرائيلي أكثر رأفة من الثاني.
عذراً التعليقات مغلقة