تناول “دومنيك تيرني” مراسل مجلة “أتلانتك” الأمريكية في مقالته تاريخ الأخطاء الأمريكية التي ساعدت من خلالها إيران دون أن تقصد ذلك، وآخرها الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، الذي يعتبره متابعة لقواعد اللعبة الأمريكية التي تساعد طهران.
ملقياً الضوء على التوترات في العلاقة “الأمريكية – الإيرانية”، حيث دخلت الولايات المتحدة في حرب ظاهرية مع طهران منذ قيام الثورة الإيرانية، كما دعمت الولايات المتحدة “صدام حسين” في الحرب “العراقية – الإيرانية”، ووصفت إيران بأنها “محور الشر” إلى جانب العراق وكوريا الشمالية، وأطلقت هجوم “ستكسنت” الإلكتروني الذي استهدف المنشآت النووية الإيرانية في عام 2009، وقدمت أسلحة للسعودية لمحاربة وكيل إيران في الحرب في اليمن.
وماتزال الولايات المتحدة وإيران تفتقران اليوم إلى العلاقات الدبلوماسية الرسمية، فقد وصف الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” إيران بأنها “الدولة الرائدة في العالم برعاية الإرهاب”، وفي الوقت ذاته تروّج الدعاية الإيرانية رواية المقاومة ضد الولايات المتحدة “الشيطان الأعظم” وإِسرائيل.
ويرى “تيرني” وهو أستاذ للعلوم السياسية في كلية “سوارثمور”، أنه من المدهش مساعدة المناورات السياسية الأمريكية الرئيسية في الشرق الأوسط بشكل دائم المصالح الإيرانية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فمن المفترض أن أمريكا عدو مميت لكنها تقدم الدعم عن غير قصد من خلال الانسحاب من الاتفاق النووي.
وفنّد “تيرني” المساعدات التي قدمتها الولايات المتحدة لإيران عن غير عمد، والتي تعكس الاتجاه الأمريكي المحير الذي كان يدعم اهتمامات إيران، والذي بدأ في عام 2001 عند إزالة طالبان من الحكم في أفغانستان.
مشيراً إلى أنه بالطبع لم يكن هدف واشنطن مساعدة طهران، وإنما محاربة تنظيم القاعدة والجهات الراعية لها، ومع ذلك، كانت نتيجة التدخل هو الإطاحة بأحد خصوم إيران الرئيسيين، ففي ذلك الوقت، دعمت إيران الجماعات المعارضة التي تقاتل حركة طالبان، وكادت تشن حرباً شاملة ضد الجماعة الإسلامية في عام 1998 بعد مقتل دبلوماسيين إيرانيين في أفغانستان.
واليوم، بينما تتطلع واشنطن إلى الخروج من أفغانستان، أجرت طهران حملة دبلوماسية من خلال توفير الدعم لطالبان، من أجل تسريع الرحيل الأميركي وزيادة التأثير الإيراني إلى أقصى حد، أما الهبة الأمريكية الثانية لأمن إيران كانت، بحسب “بيرني” غزو العراق في 2003، حيث كان “صدام حسين” خصم إيران القاتل.
وخاضت إيران حرباً وحشية ضد العراق في الثمانينيات، وتكبّدت مئات الآلاف من الضحايا، وتعرضت لهجمات بالأسلحة الكيماوية وضربات صاروخية على المدن الإيرانية، بعد عام 2003، بعد الإطاحة بـ”صدام حسين”، تحول العراق إلى دولة عميلة افتراضية لإيران، وأصبحت طهران الآن هي الأمة التي لا غنى عنها في السياسة العراقية، حيث تقرر سياسة الحكومة العراقية وتسوية النزاعات، فعندما انتهج الأكراد العراقيون استفتاءً للاستقلال في عام 2017 الذي هدد بنزاع واسع النطاق مع بغداد، كانت إيران وليس الولايات المتحدة، هي الطرف الذي يفاوض على إنهاء المواجهة.
وهنا يُشير “تيرني” إلى المساعدة العظيمة التي قدمتها أميركا لإيران، فلو كانت إيران قد حاولت الإطاحة “بصدام حسين” مباشرة من خلال الغزو، كان ذلك كفيلاً بإثارة استجابة متوازنة من الدول العربية والغرب، وبدلاً من ذلك، نزلت الطائرات الأمريكية من السماء مثل الملائكة المباركة لطرد نظام صدام بـ “الصدمة والرعب”، بينما جنت طهران المكافآت. ويتابع “تيرني” سرده قائلاً “ومع ذلك، لم تكتف الولايات المتحدة من مساعدة إيران. ففي عام 2014، بعد اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” شمالي العراق، أنشأت الولايات المتحدة تحالفاً يضم أكثر من 80 دولة لمحاربة المتطرفين السنة، من استفاد؟ إيران بالطبع، وبينما تضاءلت قوة التنظيم في سوريا والعراق، عززت إيران موقعها الاستراتيجي، على سبيل المثال، دربت إيران المليشيات الشيعية على محاربة داعش، المعروفة باسم “الحشد الشعبي”، وخلقت كياناً عسكرياً قوياً”.
وفي تلخيص لما سبق، خلص “تيرني” إلى أن الولايات المتحدة لديها ميل دائم لمساعدة عدوها المفترض، فعلى مدى عقدين، دفعت الولايات المتحدة أموالاً طائلة في منطقة الشرق الأوسط، واستخدمت إيران الشيكات. كما أزالت واشنطن الأعداء عن الحدود الشرقية والغربية لإيران. وتستطيع قوات طهران الآن عبور “الجسر البري” من طهران إلى بيروت، الذي ساعدت واشنطن على بنائه،
ويرى “تيرني” أن التفسير للكرم الأمريكي هو أن واشنطن اتبعت إستراتيجية قصيرة المدى لإزالة الأعداء وتجاهلت العواقب السياسية الأوسع، فلطالما صنع نجاح المعركة فراغاً في السلطة، الذي استغلته إيران لتزيد نفوذها بفارغ الصبر، إلا أن الاستثناء كان عندما نجحت واشنطن في تقييد من الطموحات الإيرانية من خلال الدبلوماسية “الصفقة النووية الإيرانية”، حيث أدت مجموعة من العقوبات الصارمة والمفاوضات المتعددة الأطراف إلى قيام إيران بإغلاق جميع الطرق المؤدية إلى قنبلة نووية لمدة عقد أو أكثر، ووضع ثلثي أجهزة التخصيب في التخزين، والتخلي عن 95% من مخزونها من اليورانيوم، وقبولها نظام التفتيش الأكثر تدخلاً في التاريخ الحديث.
وقال “تيرني” في مقالته أن الانسحاب من الاتفاق النووي أعاد “ترامب” إلى استراتيجية أمريكية قديمة وفاشلة: تجاهل التأثيرات السياسية المتتالية. ويبدو أن “ترامب” يفشل في التفكير في خطوات إضافية إلى الأمام، وربما زيادة المصالح الإيرانية، مشيراً إلى ما كتبه وزير الخارجية البريطاني “بوريس جونسون” في صحيفة “نيويورك تايمز”، “لن تكسب إيران سوى التخلي عن القيود المفروضة على برنامجها النووي”.
وأضاف “تيرني” في مقالته: “حقق البيت الأبيض المستحيل على ما يبدو، فقد جعل إيران تبدو وكأنها مناصرة الاتفاقات والمدافع عن القانون الدولي، إيران التي تخرق المعايير الدولية بشكل روتيني، وتكذب بشأن برنامجها النووي لسنوات، ووفرت الأسلحة للمتمردين العراقيين، ودعمت مليشيا حزب الله، وتستمر في تطوير برنامج صاروخي بعيد المدى، ومع ذلك يمكنها ضمان حصولها على أرضية أخلاقية عالية، رغم كل خطاياها، يبدو أن إيران ملتزمة بشروط الاتفاقية النووية، إنها أمريكا التي مزقت الاتفاق إلى أشلاء”.
ويستطرد “تيرني” في شرح عواقب انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، مؤكداً على أن ذلك سيؤدي إلى دق إسفين بين أمريكا وحلفائها الأوروبيين، مما يعرقل فرص قيام جبهة موحدة ضد إيران، وقد يرفض الاتحاد الأوروبي الامتثال للعقوبات الأمريكية الجديدة ضد إيران، مما يتسبب في أزمة في العلاقات الأطلسية، مضيفاً أن إيران أصبحت حرة في اتخاذ قرارها ما إذا كانت ستعجّل في برنامجها النووي أو ستسمح باستمرار عمليات التفتيش.
وقد تحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” في مقابلة حديثة له عن الأنشطة النووية الإيرانية السرية من عام 1999 إلى عام 2003 قائلاً بأن تدمير الصفقة لن يؤدي إلا إلى تسهيل وجود برنامج إيراني سري جديد.
ومن جهة أخرى، يرى “تيرني” بأنه على الرغم من أن إيران ستكتسب نجاحاً استراتيجياً بتقسيم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلا أنها قد تخسر على المدى الأطول إذا كانت تصرفات “ترامب” تشجّع المتشددين في طهران، وقد يُنظر إلى محاولة الرئيس الإيراني “حسن روحاني” لكسر عزلة البلاد على أنها خدعة، مما يشوّه فكرة الاندماج بأكملها.
ولكن إذا انتهى المطاف بإيران إلى تعزيز مساعدتها لطالبان، أو تطوير برنامجها الصاروخي، أو طرد المفتشين النوويين، فإن النتيجة ستكون أيضاً هزيمة للولايات المتحدة لكن المأساة بحسب “تيرني” هي أن حلفاء أميركا الأوروبيين حريصون على إصلاح المشاكل المتعلقة بالاتفاق النووي، بما في ذلك إطالة الإطار الزمني للقيود المفروضة على برنامج إيران النووي والحد من برنامج إيران الصاروخي، واختتم “تيرني” مقالته بالقول “يجب على إيران أن تتساءل لماذا يستمر “الشيطان العظيم” في إيصال المنّ من السماء؟”
Sorry Comments are closed