بسام الحمصي – حمص – حرية برس:
خمس سنوات من الحرب في سوريا كانت كفيلة أن تغير جميع معالم الحياة فيها، فليس القصف والحصار والغارات الجوية هي المعاناة الوحيدة التي تعترض حياة إنسان ما في سوريا، كذلك هي المعاملات الورقية من الأوراق الثبوتية، كإثبات زواج أو بيان عائلي، أو شهادة الولادة وغيرها من الأوراق التي أصبحت إحدى أهم معوقات الحياة، فباتت كل هذه الثبوتيات الشغل الشاغل للسوريين، وهو تحدٍ كبير سيواجهه كل من يفكر بمغادرة سوريا لاسيما إذا كان مطلوباٌ أو ملاحقاٌ من قبل النظام، ولا يستطيع الحصول على أية أوراق ثبوتية سواء أكانت جوازات سفر أو قيود مدنية، فالحصار على الثوار ومجتمعهم لم يقتصر على منع الغذاء والدواء والكهرباء، بل وسّعه النظام ليشمل كل نواحي الحياة.
عمد النظام في بداية العام 2012 إلى إغلاق دوائر السجل المدني في مناطق ريف حمص الشمالي المحرر، وتحويل السجلات والوثائق الرسمية إلى مناطق سيطرته، وأجبر موظفي هذه الدوائر على الالتزام بالدوام في مناطقه، أو يواجهون الفصل من وظائفهم، ما عقد الأمر وزاده صعوبة على المواطنين في الريف الحمصي والذين يعتبرون من البيئة الحاضنة للثورة والثوار، فأصبحت مراجعة دوائر الدولة والسجل المدني لتسجيل أولادهم أو لإصدار أوراق ثبوتية تخصهم، مغامرة خطرة قد تتسبب باعتقالهم أو تصفيتهم من قبل قوات الأسد.
تكاليف باهظة .. وبالدرولار
بات من المعروف أن الحصول على الأوراق الثبوتية و معاملات الزواج و الطلاق والإرث من أهم المشاكل التي يعانيها المدنيون في المناطق المحررة.
يقول “أيوب الزين” وهو شاب ثلاثيني متزوج وأحد قاطني مدينة الحولة: “أنا أب لثلاثة أطفال وإلى الآن لا أملك أي وثيقة رسمية تثبت واقعة زواجي أو دفتر عائلة يثبت أن هؤلاء الأطفال هم أطفالي، حيث شاءت الأقدار أن أتزوج خلال الأشهر الأولى من عمر الثورة، وبعد أن قامت قوات الأسد بنصب الحواجز على الطرقات وحدوث عدة حالات اعتقال لأبناء المنطقة، لم أعد أتجرأ على الذهاب لدوائر السجل المدني في المناطق الواقعة تحت سيطرته، وذلك خوفا من الإعتقال لاسيما أنني شاركت بجميع المظاهرات التي خرجت بالمنطقة وهتفت بإسقاط النظام”.
يضيف “الزين”: “منذ مدة قررت أن أغادر سوريا مع عائلتي بحثاً عن الأمان، فحاولت أن أحصل على الأوراق الثبوتية اللازمة لاستكمال إجراءات السفر، كعقد تثبيت الزواج و دفتر العائلة و إخراجات القيد وجوازات السفر، عن طريق السماسرة ممن لهم معارف (واسطة) لدى النظام، لكن فوجئت بالمبالغ المالية الكبيرة التي يطلبها هؤلاء السماسرة لقاء تسيير هذه المعاملات، وبالدولار الأمريكي حصراٌ، حيث تبلغ قيمة تثبيت عقد الزواج في المحكمة 600$، و تكلفة جواز السفر السوري 2000$، لغير العسكريين، وترتفع للعسكريين المنشقين عن النظام إلى الضعف، بالاضافة إلى 500$ تكلفة استخراج القيد المدني، وأنا غير قادر على دفع جميع هذه التكاليف مما اضطرني إلى العزوف عن فكرة السفر حاليا”.
تجربة لم تحظ بدعم ولا اعتراف
تسعى المعارضة السورية في الداخل من خلال المجالس المحلية إلى إنجاح فكرة أمانات السجل المدني، وهي تحاول جاهدة الحصول على دعم واعتراف من المجتمع الدولي، لكن إلى الآن لم تتمكن من إنجاح هذه التجربة.
“محمود عبد العزيز” أحد مؤسسي مكتب السجل المدني في مدينة الحولة بريف حمص الشمالي يقول :”تم إنشاء مكتب السجل المدني في مدينة الحولة بنهاية عام 2013، بغرفة صغيرة بإحدى مدارس البلدة، وتم إحضار طاولات وخزانة وبعض الكراسي وقرطاسية وبعض الأوراق المطلوبة واللازمة لتسيير أموره، حيث نعمل في هذا المكتب على توثيق كامل لجميع الإحصائيات المطلوبة من حالات الوفاة، والولادة، والزواج، وتوثيق الشهداء والمعتقلين والأيتام ( الشهداء والعاديين)، وبالتفاصيل الكاملة، بالاضافة لاستخراج دفاتر عائلة للمتزوجين الجدد، وتوثيق كامل لأرقام القيد والخانة وغير ذلك مما تستدعيه الضرورة، وكل هذه الأعمال مؤرشفة ومسجلة في سجلات نظامية منذ افتتاح المكتب”.
يضيف “محمود” : “في ظل الظروف التي تعيشها البلاد من الحروب والفوضى والنزوح واللجوء، كان لابد من فعل شيء يحفظ حقوق الناس من الضياع والنسيان، كوجود سجلات تحفظ تاريخ الولادة وتاريخ الوفاة، ووقوعات الزواج والطلاق، فكان مكتب السجل المدني هو الجهة الرسمية التي تصدر عنها هذه المعلومات ومعترف فيها محلياٌ على الأقل، وذلك من خلال أرشفة هذه المعلومات وحفظها في سجلات لحين قدوم الدولة الجديدة وتوفير جهد كبير على الناس في المستقبل”.
يتابع قائلاٌ :”إن قلة وعي الناس لهذا الأمر المهم واللامبالاة وعدم الاعتراف بهذه المكاتب من المجتمع الدولي، وعدم دعم المكتب من الجهات الرسمية الثورية مادياً ولوجستيا و إعلاميا، زاد العبء الملقى علينا وذلك في تأمين متطلبات العمل، كشراء السجلات المطلوبة و الأوراق وتصويرها وشراء خزانة ومكتبة تحفظ فيها السجلات، لاسيما أن العمل كبير ويحتاج إلى مكان آمن لحفظة من الضياع والاندثار”.
أطفال بلا هوية
دائما ما يكون الأطفال هم الخاسر الأكبر في جميع الأزمات التي يمر بها المجتمع، ولاسيما في الحروب ، فلابد للطفل أن يدفع ضريبة مواقف أهله، أو منطقته، وقد تصل إلى تحمل وزر الطائفة التي ينتمي إليها.
“لقد دفع أطفالنا ثمن مواقف أباهم السياسية”، يقول المحامي “رائد جوخدار” أحد محامي ريف حمص الشمالي، ويتابع قائلاٌ: “مئات الأطفال في ريف حمص الشمالي ممن ولدوا خلال السنوات الأربعة الماضية، حرموا حقاً من حقوقهم التي منحتهم إياها القوانين والشرائع الدولية، إذ يعيش المئات منهم دون سجلات رسمية تثبت جنسيتهم السورية، لاسيما إن تراكم الولادات بدون تسجيل منذ عام 2012 في الريف الحمصي، سوف يؤدي إلى ضياع الأعمار الحقيقية وظهور حالات مكتومي العمر، وخصوصاً الأطفال الذين توفي آباؤهم نتيجة الحرب الدائرة، فنحن الآن أمام جيل ضائع من الأطفال لا يحمل وثائق تثبت هويته، وغير معترف بجنسيته السورية إذا ما فكر بمغادرة البلاد”.
وأردف قائلاٌ : “هناك صعوبات يواجها الشخص في حالات الولادة الجديدة غير الموثقة رسمياً، وهو حرمان الطفل من حقوقه المدنية كفرد، وكذلك حرمانه من حقه في المساعدات الأساسية التي توفرها المنظمات، مثل حليب الأطفال، والحفاضات، كما أن توثيق حالات الولادة، من قبل مكتب السجل المدني التابع للمجالس المحلية أصبح أمراً ملحّاً، والأمر الوحيد الذي يقف أمام هذه الفكرة هو عدم وجود اعتراف دولي أو من قبل المنظمات الدولية فيها، ويقتصر التعامل بها في مناطق سيطرة المعارضة فقط، حيث يوجد في جميع المجالس المحلية مكاتب للإحصاء، وتوثيق جميع حالات الوفاة، والولادة، ولكن لا تقوم بإصدار أي أوراق رسمية معترف عليها”.
الصورة المستقبلية ليست مبشرة ،أمام مشهد الحرب والخراب التي تسبب في غياب مؤسسات حيوية فاعلة، من بينها مؤسسات الشؤون المدنية، ما يعني بقاء ألاف السوريون اليوم بدون ثبوتيات، والجميع مدعو هنا من المجتمع الدولي والأمم المتحدة لمنح الاعتراف بالحكومة المؤقتة، ومؤسساتها وكل ما يصدر عنها من أوراق وبيانات.
Sorry Comments are closed