اليوم نحزم أمتعتنا “المهمة فقط” نضعها في حقائب والدموع تنهمر بصمت، نتلف كل شيء له صلة بالثورة خلال الثماني سنوات خوفاً على ما بقي من أناسٍ يهمنا أمرهم، وكأن الناس يستعدون لأن يرجعوا إلى طور العبودية بعدما انحدرت ثورتنا إلى وضعٍ قال بعضهم: إنها “فشلت”.
أمشي في شوراع مدينتي فلا أرى إلا وجوهاً أنهكها التعب والخوف من المصير المجهول، وسواء بقيت أو رحلت فالأمر سيّان.
فهنا ستكون تحت رحمة نظام الأسد صاحب الباع الطويل والمهندس في عمليات إذلال الشعب، وهناك ذل المخيمات والعيشة البائسة في ظل فقر متقع لمعظم الناس وانعدام المساعدات.
وأتساءلُ هنا .. هل هذه هي النهاية فعلاً؟ .. هل كُتب على هذا الشعب ألا ينتصر بأعظم ثورة قامت بالتاريخ وقاومت أعتى وأقوى قوة ظلم وطغيان؛ على الرغم من تعرضها لخذلان القريب قبل البعيد.
لن أخوض في الأسباب التي أوصلتنا إلى هنا طوال هذه السنوات؛ فالكل بات يعلمها وأصبح الكلام فيها أمراً يدعو للضجر، وممل وكأنّك تضرب جسداً ميتاً؛ فلم يعد يفيد بشيء على الإطلاق، ولن ترجع الروح إلى الجسد، كما لن يرجع إلى الثورة بريقها الأول.
رحلة تهجيرنا هذه تزامنت مع رحلة تهجير من أهالي جنوب دمشق سبقتها رحلات التهجير من القلمون الشرقي، ومن قبلها تهجير الغوطة الشرقية، وسبقها الكثير من المناطق الأخرى .. وكأنها عدوى التهجير استشرت بين الشعب، فلم يعد أحد له طاقة على قتالٍ محسومٍ النتيجة لا يُخلّف إلا قتلٍ ودمارٍ وخراب.
اليوم لم نعد نسمع أخبار المعارك وانتصارات الثوار، ولا إسقاط طائرات النظام ولا تفجير الدبابات، ولم نعد نرى نعال الثوار تمزّق صورة “بشار الأسد وأبيه” كذلك اختفت كلمة “جايينك” فلم تعد تطرب أذاننا.
اليوم فقط أخبار التهجير من المناطق المحررة، والحافلات التي تحشر الناس في الشمال السوري في انتظار المحرقة الكبرى التي بات النظام يُرّوج لها في أعلامه ويتوّعد بتطهير “إدلب” من “الإرهاب” حسب قوله.
بعد أيامٍ قليلةٍ .. لن يكون هناك مصطلح “حمص عاصمة الثورة” لأنها سترجع إلى حكم آل الأسد، وستغدو “عدواً” بعدما كانت “صديقاً” طوال هذه السنين السبع.
اليوم ندفع ثمن خذلاننا للمحاصرين في حمص القديمة وخذلاننا لحي الوعر وخذلاننا للغوطة ومن قبلهم حلب؛ فاليوم حان وقت “وفاء الدين” و “من يَخذل يُخذل” فهذه سنة الله في الأرض.
غداً سأشتاق للشوارع والزوايا في وطني التي لا يوجد شبر فيها إلا ولنا فيه حكاية، وسأشتاق لحارتي وجيراني وأشجار الكينا الخضراء التي لا زالت تُظلّنا منذ سنين طويلة، وسأشتاق لأحباب تركتهم خلفي لا أعلم ماذا مصيرهم وماذا سيكون مصيري؟!.
غداً سأشتاق للذكريات التي كانت تلهب قلبي مع أصدقاء عشتُ معهم هنا أجمل سنين عمري خلال الثورة، وسأشتاق لرائحة صديقي الشهيد التي كنت أشمّها بجانب بيته عندما أرحل من هنا، كما سأشتاق لرائحة صديقي المعتقل التي كنت أشعر بها وأنا أمشي في شارع بيته.
غداً سأشتاق لكل شيء هنا .. لن أقول كما قالوا قبلي سنرجع فاتحين، لأني لم أرى أحداً رجع بعدما تهجّر .. لكن سأقول “عسى أن نرجع إليكِ يا حمص العديّة مرّة أخرى”.
عذراً التعليقات مغلقة