كان من المتوقع في ظل الظروف والمعطيات الحالية أن يكون دور ريفي حمص الشمالي وحماه الجنوبي في محاولات التهجير، لكني لم أكن أتوقع السقوط المدوي للفصائل والأمراء في تلك المنطقة بهذه السرعة.
لقد كررنا أخطاء من سبقونا، حتى أصبحنا لقمة سائغة على موائد اللئام، فقد طبقت روسيا وعميلها الأسدي ببساطة نفس السيناريو الذي طبقته في كل مكان تم تهجير سكانه قبل اليوم، فادعت أنها تقاتل إرهابيين بموجب قرارات الأمم المتحدة، والنصرة وأمثالها لم يتنازلوا عن مكتسباتهم في سبيل إنقاذ آخر معاقل الثورة في وسط البلاد، ولم تكن هناك تحركات جادة من الجميع للدفع باتجاه حل جميع التنظيمات المسلحة ذات المسميات الإسلامية، وخصوصاً جبهة النصرة، أو اتخاذ خطوات لإجبارها على ذلك، كما فعل أهالي مدينة الرستن حين أجبروا مقاتلي النصرة على إخراج مقراتهم لخارج المدينة.
المناطقية الفجة التي كانت ظهرت طاغية، هيأت للروس أسباب انتصارهم المدوي، واستطاعوا فرض شروطهم المذلة على لجنة التفاوض التي ظهرت في الفيديو المسرب لها أثناء الاجتماع مع الضابط الروسي، وكأنها تلميذ مذنب في حضرة معلم يعطي تعليماته ويفرض شروطه، فقد تفرد جيش التوحيد في تلبيسة بالتفاوض مع روسيا، ووصل إلى تفاهمات معها برعاية أحمد الجربا، والتي حاول طلاس ابن مدينة الرستن استغلال علاقته القديمة مع روسيا، من أجل الوصول لتنازلات أقل مما وصلت إليه تفاهمات جيش التوحيد مع روسيا، سميت باتفاقية القاهرة لخفض التصعيد، والتي أجبر الجميع فيما بعد على الرضوخ لها بعد أن أفشل مبادرة طلاس، حيث رفضت من قبل الروس لأن هناك من قدم لهم تنازلات أكبر.
المناطقية التي كانت موجودة تاريخياً في ريف حمص الشمالي، منعت الفصائل من الاندماج بمؤسسة عسكرية واحدة ترفع اسم وطني، وتقاد من قبل ضباط محترفين، وليس من قبل قادة مدنيين بمسمى قائد ثوري، وبقي كل فصيل في مدينته وحيّه وقريته، ولم يخرج مقراته العسكرية إلى خارج مراكز المدن والقرى بعيداً عن المدنيين، ولم يتم تجهيز الخنادق والملاجئ والتحصينات اللازمة لحرب استنزاف طويلة مع قوات الأسد.
لم يتعلم أمراء الحرب في ريفي حمص الشمالي وحماه الجنوبي من تجارب من سبقوهم، بل كرروا كل الأخطاء السابقة، فتم الركون للدفاع وحرب المواقع، ولم يستغلوا انشغال قوات الأسد في الغوطة الشرقية مثلاً، لفتح معركة تساهم في تخفيف الهجوم على الغوطة، وتكسبهم مزيداً من النقاط في معركتهم التي كانت آتية لا محالة، وحين جاءت المعركة، وبدلاً من انتقال المقاتلين إلى قلب أراضي العدو الأسدي، وضربه ضربات موجعة، جلسوا يتلقون قصف الطيران والمدفعية والصواريخ دون ردة فعل، سوى المحافظة على أماكننا السابقة، ومنع الشبيحة من الدخول إليها، وكسب بعض المساحات الإضافية في المناطق الشرقية بعيداً عن النقاط التي تؤثر على النظام وتؤلمه، وتسمح لنا بامتلاك أوراق قوة أكبر حين يأتي دور التفاوض، ولم تبادر الكتل العسكرية الحمصية المتواجدة خارج الحصار في إدلب وغيرها، إلى فتح معارك تستنزف قوات الأسد والقوات الروسية والإيرانية وتدعم ملف التفاوض للحصول على شروط ومكتسبات أفضل.
كان توحيد جميع التنظيمات المدنية والسياسية، ونبذ خلافاتها وصراعاتها الصغيرة، وفق برنامج وطني يسعى لتجنيب المنطقة الحريق المقبل، ضرورة وطنية، إذ كان من المفترض أن ينتج عن هذا التوحد حملة متكاملة سياسية وإعلامية وشعبية، يتعاون فيها الجميع في الداخل والخارج على امتداد مساحات العالم، تسعى من خلالها لكسب الرأي العام الأوروبي خاصة والغربي عامة، عبر الإعلام وعبر التواصل مع كل الأحزاب والنقابات والتشكيلات السياسية في تلك البلدان، وإرسال رسائل لكل حكومات العالم المؤثرة، بالإضافة لتحضير المدنيين، وتهيئة مقومات صمودهم من ملاجئ وأغذية وبقية المستلزمات.
انعدام الشفافية وعدم احترام المواطن المتلهف للحصول على معلومة جعل الشائعات تتكاثر، وعمل نظام الأسد عليها واستطاع استغلالها بنجاح، فسمعنا أن مندوباً تركياً وآخر ألمانياً حضرا جلسة التفاوض، ثم قيل أن الحضور كان عبر السكايب، وأن الشروط التي وضعها الروس في أول يوم، تم تعديلها وتراجعوا عنها لصالح البقاء وتمديد الهدنة، وفي اليوم الثاني تلاشت كل الشائعات ليظهر أن شروط الأمس كانت بسيطة بالمقارنة مع البنود التي نقلتها وسائل إعلام العدو الأسدي، ولم تخرج اللجنة بمؤتمر صحفي أو بيان رسمي لتوضح للسكان ماهي بنود الاتفاق، بل تكاثرت التسريبات من هنا وهناك، وكان كل عضو من أعضاء لجنة التفاوض يصرح بشكل شخصي من خلال منشور على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي أو رسالة صوتية على الواتس آب تناقلتها الغرف المختلفة، ولم يكن هناك أي تصريح أو معلومة خرجت من اللجنة بشكل رسمي، إنما كلها اجتهادات وكلام من نشطاء صحفيين يدّعون القرب من لجنة التفاوض.
استطاع النظام عبر عملاءه اختراق التشكيلات السياسية والعسكرية التي تقود المعركة، وإضعافها، عبر تقسيمها أيديولوجياً أو مناطقياً (تلبيسة، الحولة، الرستن) أو تحريض الكتلة الشعبية التي عانت ما عانته بسبب الحصار الطويل، وتسبب بانقسام كبير في ريف حمص الشمالي، فدفع بعض عملاء النظام ممن يريد الاستسلام لخروج مظاهرات تطالب بحقن الدماء ودخول الشرطة الروسية، مما أضعف موقف لجنة التفاوض، ولم تفلح المظاهرات المضادة التي خرجت تطالب بالصمود والثبات حتى آخر نقطة دم، في رفع سقف المفاوضات، وكان يجب على لجنة التفاوض أن تتحلى بأعلى درجات الشفافية تجاه الكتلة الشعبية التي تفاوض باسمها، وأن تستشيرها في القرارات المصيرية، وألا تترك تلك القرارات لتفاهمات عابرة للحدود أو لرغبات أمير حرب يبحث عن مصالحه الخاصة، فحين تشارك تلك الكتلة البشرية في صناعة القرار فسيكون لها دور في إنجاحه.
بقي التأكيد أن دروس خسارة اليوم دليل نصرنا غداً، وأن من خسر اليوم هم أمراء الحرب والفصائل المختلفة المتفرقة، وأن الظروف الموضوعية التي تسببت في الثورة مازالت موجودة، وقد ازدادت عما كانت عليه، وازدادت مساحات تأثيرها حتى في صفوف الموالين لنظام الأسد، وأن النجاح لا يحتاج سوى إلى نضج ظروفنا الذاتية، وتغيير طرائق وأساليب العمل.
عذراً التعليقات مغلقة