كان معلمي الهولندي السبعيني في مكتبة مدينة فيرت جنوب البلاد فخوراً بديمقراطية مملكة الأراضي المنخفضة التي وفدت إليها لاجئاً من حرب طاحنة تواصل خلال الأيام الأخيرة اقتلاع الأشخاص وذاكرة المكان خاصتي في مخيم اليرموك الفلسطيني السوري بفعل الديكتاتور ومن أعادوا إحياءه.
كل ما يعلمه أستاذي الذي أمضى أربعين عاماً في تدريس الأطفال والمراهقين وتطوع بعدها لتعليمنا بعض اللغة والثقافة الهولنديتين، أن القهوة لذيذة في فيرت فقط، وأن الاندماج لا يكون إلا بفطيرة تفاح فلكلورية محمّصة بأيد أوروبية، إذ لم يزر بلداً عربياً قط في حياته ولم بتذوق شيئاً فيه حسبما أخبرني.
الفطيرة والتراث هنا فيهما ما يكفي من الجاذبية، لكن بعض ما يرغب مدرسي المخلص في إيصاله بجاذبية أكبر بعد الدرس الشيق التفاعلي وفنجان القهوة المرفق به، هو أن الديكتاتور الشرق أوسطي جيد طالما أن ديكتاتوريته لا تؤثر على محيط مدينة فيرت، لا داع للحديث عنه حينها، والأفضل غض الطرف إن انحسرت المخاوف والنتائج في بقعته ولم تتفاعل معها مفاهيم التوسع والحداثة وهوامش التعبير وقصص التاريخ وهواجس المستقبل. أي أنه يرغب باستنكار الديكتاتورية التي لا يريد والقفز عن الديكتاتورية التي يريد.
ذلك أن إردوغان وهو بنظري أفضل الديكتاتوريين الشرق أوسطيين نال نصيباً موسعاً من الاستنكار والإدانة لدى معلمي، فيما اكتفت جبهته بانحناء بمقدار خمس وأربعين درجة دون النطق ببنت شفة واحدة حين أبلغته أن بشار الأسد أقبح ديكتاتور حالي وأفعاله ماثلة للعيان بوضوح، وديكتاتوريته دمرت بلده وشعبه مقارنة بالديكتاتورية المفترضة لإردوغان التي تحسن مكانة تركيا.
لا يهم على أي حال فأنا لست محامي دفاع عن الأخير ولا أرغب بأي مقارنة بينه وبين “ذنب الكلب”، ولا طموح لدي بإقناع معلمي بذلك، فالأهم أن الصورة القديمة لديكتاتور دمشق والتي كانت تجثم في صدر الجسر عند مدخل مخيمي مزقت وأتلفت مع انتقال شرارة الثورة إلى جنبات ذاك المكان، ومرت سنوات وسنوات من الحصار والقتل والموت والجوع والتهجير واللجوء وكل شيء مناف لمطلبي الحرية والكرامة الأصيلين، لتعود الصورة الممزقة لكن على هيئة لوحة أكبر حجما من سابقتها بألوان مشعّة وسط الركام الرمادي الباهت.
عاد الديكتاتور أكبر حجماً رغم عدم تناسبه مع الحداثة، وباتت مساكن من عارضوه ردماً بالضرورة لأنها تتعارض مع العولمة أيضاً، وازدادت لمساته فعالية في جعل مآلات المكان والزمان والسكان تتناسب عكساً مع مقومات الحياة الحديثة.
إنه تجانس الحجر والبشر بعلاقة طردية مع تجانس الألوان والأحجام ضمن لوحة تدعى “إحياء الديكتاتور” تحت شعار “الأسد أو نحرق البلد” تأخذ تعاليمها من قواعد الاستشراق.
هي لوحة مصطنعة لا تهدد الديمقراطيين المفترضين كما تهديد واقعية الديكتاتور المفترض لهم، فغياب العولمة للأولى وقدرتها الفائقة على إبطال أي حداثة يجنب عناء نقرها بالكلمات فيما الأخيرة تحتاج إلى ثرثرة صريحة لتحييدها.
Sorry Comments are closed