في الحلقة الرابعة من ملف “أرشيف ميتروخين” نتناول وثائق الكولونيل فاسيلي ميتروخين أمين المحفوظات السابق لجهاز المخابرات السوفييتية “كي جي بي” المهرّبة من الاستخبارات السوفييتية إلى لندن، والتي تخص فلسطين المحتلة.
وكما أشرنا في المقدمة العامة فإن العربي الجديد لا تتبنى الرواية السوفياتية، وهي اذا تنقلها هنا من أجل الاضاءة ايضا على جانب من تفكير الأجهزة السوفياتية التي كانت تضع علاقات التحالف والتعاون في خانة التبعية والعمالة، وهذا أمر بعيد كل البعد بالنسبة للشخصيات الفلسطينية الواردة في هذه الحلقة.
وتشير وثائق ميتروخين التي اطلع عليها “العربي الجديد” إلى أنه تم إبلاغ رئيس الاتحاد السوفييتي ليونيد بريجنيف، (رئيس الاتحاد السوفييتي بين عامي 1964 و1982)، في يوليو/تموز 1970 بوجود شخص “يعتمد عليه” يدعى و. حداد، ولقبه “القومي” من مواليد مدينة صفد عام 1928.
وكتب رئيس جهاز “كي جي بي” يوري أندروبوف، في رسالة إلى بريجنيف أن “طبيعة العلاقات مع حدّاد تتيح لنا إلى حد ما، مراقبة عمليات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والتأثير عليها بما يخدم الاتحاد السوفييتي، وإجراء أعمال نشيطة بواسطتها تخدم مصالحنا مع مراعاة السريّة اللازمة”، ودعا إلى توفير “معدات خاصة” للجبهة.
جاء ذلك بعد أن بدأ “كي جي بي” اتصالاته السرية مع “القومي” في عام 1968، محددا أهداف الجهاز بـ”تدبير عمليات خاصة لتعطيل خطوط النفط الرئيسية في بلدان الشرق الأوسط”، و”تنفيذ أحكام القضاء السوفييتي بحق الخونة (المنشقين)”، و”الرقابة على نشاط الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لمنع تنفيذ أعمال خطرة قد تمس بمصالح الدولة السوفييتية”، و”ممارسة تأثير مجدٍ سياسياً على “القومي” لتوجيه نشاط الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ضمن المسار المناسب لكي جي بي”، وكانت اللقاءات الشخصية مع حدّاد تعقد بشقق سرية (لم يحدد مكانها في الوثائق)، وكان يتم تغيير الشقة عند كل لقاء.
ونظرا لاعتبارات أمنية، لم يكن المشاركون في اللقاء يتوجهون إلى الشقة إلا في ساعات متأخرة من المساء وبعد وصول سيارتين إلى المكان المتفق عليه، يستقل إحداهما وكيل “القومي” (لم تورد الوثائق اسمه) والثانية يستقلها موظف “كي جي بي”، ولا يجري التواصل إلا بعد إتمام “الاتصال البصري” بينهما.
تسليح نوعي
ورد في وثائق ميتروخين أن “القومي” طلب تزويده بصواريخ محمولة من فئة “أرض – جو” لاستهداف الطائرات، وألغام موجهة راديوياً وأخرى لزرعها تحت سطح الماء، وأسلحة كاتمة للصوت.
ورغم أن كل هذه الأنواع من الأسلحة باستثناء صواريخ “أرض – جو” كانت متوفرة لدى القسم “في” من “كي جي بي”، إلا أنه لم يسبق تسليمها إلى أي طرف خارج الاتحاد السوفييتي، ولم تطلع على بعضها إلا قيادة ألمانيا الشرقية.
وتوضح إحدى الوثائق أن هذه المعدات الخاصة كانت تتميز بأنها لم تحتو على أي علامات، إلا أن فحصا مدققا كان يمكن أن يبين أنها سوفييتية الصنع.
قرر “كي جي بي” تسليم القومي الأسلحة، وذلك في إطار عملية “الشرق” (فوستوك) عن طريق إنزالها من سفينة عسكرية سوفييتية تابعة لأسطول المحيط الهادئ إلى متن قارب مطاطي في موقع متفق عليه في خليج عدن، على أن يتم إغراق الشحنة في حال وجود خطر، وفق الوثيقة.
وبحسب الاتفاق، كان سيتم إنزال قارب مطاطي عند الساعة التاسعة مساء بالتوقيت المحلي بعد تبادل مجموعة من الإشارات الضوئية مع إمكانية تأخيرها لمدة ساعة في حال وجود عوائق أو تأجيلها لمدة خمسة أيام إذا لم يكن الوضع يسمح بإجرائها، كما تحدد الوثيقة إحداثيات موقع تسليم الأسلحة.
وتشير الوثيقة ذاتها إلى أن قسمي “في” و”18″ بـ”كي جي بي” فقط كانا على علم بطبيعة الشحنة، على أن يتم إعلام قائد السفينة ونائبه بالعملية بعد دخول مياه خليج عدن. وضمت الشحنة 50 مسدساً وكاتم صوت لعشرة منها و5 آلاف رصاصة، و55 رشاشا آليا و66 ألف رصاصة لها، وخمسة ألغام موجهة راديوياً، و15 فخا متفجرا.
التخطيط لخطف موظف بـ”سي آي إيه”
تضم وثائق ميتروخين معلومات عن خطط بعض العمليات التي نفذها “كي جي بي” بواسطة حدّاد، ومنها خطة عملية خطف نائب مدير مقر وكالة الاستخبارات الأميركية “سي آي إيه” في بيروت “سيفيير إل. في.” (فير) “المعادي للاتحاد السوفييتي” لنقله إلى دمشق ثم إلى الاتحاد السوفييتي على متن طائرة أو سفينة.
وبحسب وثائق ميتروخين فقد كان كان “القومي” هو الأجنبي الوحيد الذي كان على علم بالعملية، بينما لم يعلم بها في الاتحاد السوفييتي سوى المشاركين في تدبيرها وتنفيذها، وفي مارس/آذار 1970، تمت مراقبة “فير” لمعرفة مواعيد عمله، كما تتضمن الوثيقة بيانات محل إقامته ورقم سيارته الدبلوماسية من طراز “فورد كوميتا”.
وبحسب إحدى الوثائق، فإن خطط العملية تضمنت عدة سيناريوهات لعامي 1970 و1971 تراوحت بين استجواب “فير” حول المعلومات السرية المتعلقة بأفراد وعملاء “سي آي إيه” ودفعه إلى طلب اللجوء في إحدى البلدان الاشتراكية، وصولا إلى تسليمه لـ”كي جي بي” في سورية وحتى قتله.
ووافق بريجنيف على هذه العملية بعد تلقيه خطابا من أندروبوف حول أساليب الاستخبارات الأميركية في خطف عدد من الدبلوماسيين ورجال الاستخبارات السوفييت في اليابان والهند والأرجنتين لاستمالتهم إلى الخيانة، ولم توضح الوثائق ما إذا كانت العملية قد تمت أم لا.
استهداف الإسرائيليين بالخارج والداخل
تشير إحدى وثائق ميتروخين إلى أن “القومي” تسلم عددا من قاذفات آر بي جي-7 وصواريخ لتنفيذ إحدى العمليات التي أطلق عليها اسم “ناسوس” (مضخة) لاستهداف ناقلة نفط إسرائيلية مبحرة من إيران عبر باب المندب، متضمنة اسمي محمد صالح ثائر (تشوك) وأحمد خليل جيندوان (غيك) بصفتهما منفذي العملية.
وأوصى “كي جي بي” بتنفيذ العملية بالقرب من جزيرة كمران اليمنية، والتي كانت تتبع اليمن الجنوبي حينذاك، ونفّذت العملية في 13 يونيو/حزيران 1971 بواسطة “مجموعة من المسلحين” وجرى إطلاق 7 – 9 صواريخ على ناقلة “كورال سي” الإسرائيلية التي كانت تبحر تحت علم ليبيريا، ووصلت خمسة صواريخ إلى هدفها وتسببت في اندلاع حريق بالناقلة.
وتقول الوثيقة إن “القومي” نفذ أيضا هجوما مسلحا على طائرة إسرائيلية في مطار أثينا، وتفجيرات في ثلاث بعثات خارجية إسرائيلية، وتفجير خط نفط تابع لشركة “تابلاين” الأميركية، وخطف طائرة أميركية في دمشق، كما تذكر وثيقة أخرى أن حدّاد تسلم عشرة مسدسات “فالتير” وكواتم صوت ومبلغا قدره 10 آلاف دولار، في عام 1977.
وتذكر إحدى الوثائق أن حدّاد تسلم مبلغا قدره 30 ألف دولار من السوفييت في عام 1975، كما توضح الوثيقة ذاتها أنه وافق تحت ضغط من “كي جي بي” لتقليل عملياته في الدول الأجنبية، (ربما لمنع تصعيد الموقف ضد الولايات المتحدة الأميركية، خاصة بعد عملية خطف وزراء نفط منظمة الدول المنتجة للنفط أوبك في فيينا).
وفاة حدّاد
توفي حدّاد في ألمانيا الشرقية في 28 مارس/آذار 1978، نتيجة نزيف في المخ وسكتة قلبية، وجرت مراسم دفنه في بغداد.
وقال أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الراحل، جورج حبش، خلال دفنه: “ليعلم الأعداء أنه لم يمت، بل يعيش في قلوبنا، واسمه بين أيدينا، وهو مندمج بشكل طبيعي في شعبنا وثورتنا” وفق ما جاء في وثائق ميتروخين، وتختم الوثيقة بأن قيادة “كي جي بي” وجهت بالتواصل مع حليف “القومي” بعد وفاته من دون أن تتضمن أي اسم محدد، وما إذا كان السوفييت واصلوا التعاون معه من عدمه.
منظمة التحرير
كان جهاز “كي جي بي” على تواصل مع أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية وحركة “فتح” في سورية ولبنان، ولكن ثقته بهما كانت أقل من ثقته بالجبهة الشعبية، ومع ذلك، لا تخلو الوثائق من أسماء مهمة مثل أمين سر المجلس الثوري لحركة “فتح”، ماجد أبو شرار، الذي تقول الوثائق إنه كان يجري التعاون معه لترويج لمواد صحافية، وأحد مؤسسي “فتح”، أبو إياد، الذي بدأ “الاتصال الشخصي” معه في عام 1978 بحسب الوثائق، في إطار معلومات حول مصر والسعودية والجزائر، وشارك في المحادثات مع قسم الشؤون الدولية بالحزب الشيوعي السوفييتي و”كي جي بي” في موسكو، ورئيس قسم التصنيع بحركة “فتح” المسؤول عن صناعة الأسلحة الخفيفة والمتفجرات، عدنان سمارة، الذي كان “يبدي تحفظا” في التعاون مع “كي جي بي”. أما أشهر الشخصيات الواردة أسماؤها في الوثائق والتي لا تزال على قيد الحياة، فهو الرئيس الفلسطيني الحالي، محمود عباس، الملقب بـ”كروتوف”، بحسب وثائق ميتروخين التي لا تتضمن أي معلومات عن مهامه.
وحاول “كي جي بي” أيضا الاستعانة برئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، ياسر عرفات، الملقب بـ”عارف” والذي بدأ التواصل معه خلال إحدى زيارات وفد المنظمة إلى الاتحاد السوفييتي في عام 1972، بحسب إحدى الوثائق.
إلا أن الوثيقة ذاتها تذكر أن “عارف” كان يتنصل من التواصل “بسبب انشغاله” ويتبع “أسلوب المناورة” لعدم رغبته في “الإخلال بالتوازن بين العلاقات مع البلدان الاشتراكية والأنظمة العربية المحافظة”.
وكان “العربي الجديد” قد تواصل مع قياديين في حركة فتح والجبهة الشعبية لإلقاء الضوء على علاقة الاتحاد السوفييتي بالحركات الفلسطينية، والأدوار التي تنسبها وثائق ميتروخين للشخصيات الواردة في الوثائق إلا أنه لم يتلق ردا حتى كتابة هذه السطور.
يذكر أن وديع حداد جرى فصله في السبعينات بعدما ما زاد التحريض ضدّه في الجبهة من بعض أعضاء المكتب السياسيّ بسبب التحالفات السياسيّة والتقارب مع السوفييت وعدم التزامه برؤية جورج حبش بشأن العمليات الخارجية “خطف الطائرات”.
من جهته، يعلق رئيس معهد الشرق الأوسط في موسكو، يفغيني ساتانوفسكي، على ما سبق قائلا لـ”العربي الجديد” :”الدعم السوفييتي للمقاومة الفلسطينية كان يؤثر سلبا على العلاقة مع إسرائيل”، بينما أضاف المؤرخ الروسي الأميركي المقيم في بوسطن، يوري فيلشتينسكي، إلى ما سبق أن جهاز الاستخبارات “كي جي بي” كان يتولى تجنيد العملاء العرب، وحتى بين الطلاب العرب الذين حصلوا على منح دراسية في الاتحاد السوفييتي.
ويقول فيلشتينسكي الذي ألّف عدة كتب في تاريخ الاستخبارات السوفييتية والروسية، في حديث لـ”العربي الجديد”: “قطعت موسكو علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل عام 1967، ومنذ ذلك اليوم لم ترد أي كلمة طيبة عنها في الصحافة السوفييتية. لكن في عام 1991، تغير الوضع تماما، إذ فتحت روسيا أبواب الهجرة إلى إسرائيل أمام اليهود الروس. تحولت إسرائيل تدريجيا إلى دولة صديقة لروسيا، بينما أصبحت اللغة الروسية هي اللغة الثانية في إسرائيل، كما انتشرت فيها قنوات وصحف روسية”، قائلا “إسرائيل لم تعد اليوم عاملا في العلاقات الروسية العربية أو خصما سياسيا لموسكو”.
Sorry Comments are closed