الفقر والجوع والأمل المفقود غضب نائم كالبركان قد ينفجر وينثر حممه الحارقة بأي لحظة.
لا شك أن الثورة السورية بدأت شعبية عفوية وسلمية تطالب بالحرية والكرامة وإصلاح نظام الحكم وإرساء نظام العدل والمساواة الاجتماعية والاقتصادية وحرية الرأي والتعبير ومشاركة الشعب بالسلطة، لكن لا يمكننا أن ننكر أن هناك تراكمات اقتصادية فاقمت الشعور بالظلم وإهدار الكرامة كانخفاض مستوى دخل الفرد، إضافة للفوارق المعيشية بين الفقراء والأغنياء خاصة هؤلاء الذين جمعوا ثرواتهم بظل استغلال وحماية النظام وترسيخ الحكم من خلال عملية التزاوج بين رأس المال والسلطة، مما ساهم باتساع الفجوة بين طبقات المجتمع وانعدام الطبقة الوسطى وسحقها فانفرط عقد السلسلة التي تربط مابين الفئة الغنية والفقيرة، وهو ما أحدث خللاً كبيراً في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية وجعل من المجتمع السوري طبقة قليلة غنية يقابلها طبقة كبيرة فقيرة تمثّل الغالبية العظمى للسوريين.
ساهمت ممارسات السلطة بزيادة البطالة والفقر والفساد والمحسوبية وغياب العدالة الاجتماعية والثابت أن الفقر ينتج الجهل الذي يوّرث الانحطاط الفكري والأخلاقي ويغلق الباب أمام العلم والمعرفة لمختلف علوم الحياة، في ذلك الوقت لم تكن السمة الطاغية أن الثورة السورية هي ثورة جياع عاطلين عن العمل رغم وجود المعاناة الاقتصادية كجذوة ملتهبة ساهمت في إشعالها، بل حراك شعبي سلمي طالب بالحرية والعدالة والمساواة سرعان ما انتقل إلى حراك مسلح كرد فعل على لجوء النظام استخدام القوة العسكرية لوأد الثورة، مما أدخل البلاد في دوامة حرب دموية أكلت الأخضر واليابس في السنوات السبع الماضية وما زالت تحصد المزيد من القتل والتدمير والتهجير لأبناء سوريا، فلا بالحراك الشعبي السلمي ولا بقوة السلاح سقط النظام لأسباب داخلية وخارجية كثيرة تتحمل المعارضة السورية بجناحيها السياسي والعسكري الجزء الأكبر منها.
الآن وبعد سبع سنوات من الحرب المدمرة بات الشعب الذي طالب بالحرية والكرامة والعدل تحت سقف الشمس وفي العراء شهيد.. مشرّد.. مهجّر ونازح.. جائع، وعاجز تكرّم عليه المجتمع الدولي والإقليمي بمخيمات بالية تشكّل تجمعات بشرية هائلة تفتقر لأدنى مقوّمات الحياة الانسانية لا عمل ولا تعليم .. لا كهرباء وماء .. لا مشافٍ ولا أطباء أطفال ونساء ورجال وعجّز يعيشون على هامش الحياة، يطوّقهم الفقر والجوع والخذلان والأمل المفقود لا شيء جديد سوى الانتقال من قتل وحصار وتجويع النظام إلى ذل ومهانة العيش بتلك الخيمة البائسة الباردة شتاءاً والحارقة صيفاً، لكّنَ كل هذا أشبه بغضب نائم كالبركان قد ينفجر وينثر حممه الحارقة بأي لحظة.
تقسم سوريا اليوم إلى مناطق للنظام وأخرى للمعارضة وبين احتلالات عدة يتشابه وضعها المعيشي والاقتصادي المتردي الذي ينعكس بالضرورة على كل نواحي الحياة الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية والسياسية بسبب انخفاض الدخل القومي والفردي لانعدام الدولة الناجحة والكيان البديل والاستقرار الأمني بكل أنحاء البلاد، وهذا مرده إلى الحرب التي تمضي بالبلاد الى حافة الهاوية والمجاعة، حيث يعيش السوريون ظروفاً مأساوية في ظل الغلاء والفقر والبطالة واحتكار التجار وغياب فرص العمل البديلة، مما يجعل الجميع بمواجهة واقع لا يمكن تجاهله.
المشهد السوري مرعب بامتياز بعد سنوات الحرب المتواصلة واستمرار النظام وحلفائه باتباع سياسة الأرض المحروقة التي أدت الى دمار الحجر والبشر، ويزيد من حجم المأساة القتل والتهجير إلى المخيمات في الشمال السوري حيث تزداد التجمعات البشرية في مخيمات وبلدات تعاني البؤس والاهمال واللامبالاة، حيث ينشاأ جيل مهجّر يترعرع على أرض غير أرض الأباء والأجداد ويأتي من أصلابهم جيل ثانٍ وثالث يكبر ويتغذى من ثقافة وبيئة المجتمع الذي يعيش فيه، ليبقى جيلاً متأرجحاً ممزقاً بين الانتماء والانصهار، فلا هو مقبول في وطن أهله وأجداده ولا هو قادر على الاندماج في بلد المهجر، والعدد الأكبر لهذا الجيل نازح بأغلبه أمياً وفاقد للتعليم لم تحفظ له الذاكرة غير ويلات الحرب والظلم والعَوَز، يجاهد لتأسيس كيان وفضاء له تجمعه وحدة المصير واللغة والدين والثقافة والعادات في مخيمات على قطعة من بلده وبيته الذي طرد منه على بعد ساعات من حيث يقيم.
أمام هذا الواقع الجديد والانتكاسات المتتالية للثورة وحاضنتها الشعبية التي تعرضت لشتى أنواع القتل والتدمير والتهجير القسري إلى مخيمات نائية وبلدات سمتها الأساسية الفقر والجوع والانفلات الأمني وانعدام أسس الحياة وغياب آفاق الانفراج أو حل قريب قد تتحوّل ثورة الكرامة والحرية إلى ثورة الفقر والجياع.
ولعلّ ما أخشاه أن يكون ذلك هو سيناريو الرعب القادم خاصة وأن كل المقوّمات والأسباب باتت متوفرة لمثل هكذا تحوّل، بدءاً من المشكلات الاجتماعية والأزمات المالية والاقتصادية المتمثلة بالفقر والتضخم والبطالة وصولاً إلى تناقص ثروات البلاد وسرقتها من مختلف أطراف الصراع في سوريا، ليبقى هذا الشعب مُحارباً ومهجراً ومحروماً من أبسط حقوق العيش بفعل كل الأشرار في الداخل والخارج، لا يمكن لأحد أن يتخيّل تفاصيل مثل هذا السيناريو إن حصل.. متى وكيف ومن أين سيبدأ .
الحالة الاقتصادية المتردية واحدة في كل البلاد وإن اختلفت شدّتها وحدّتها من مكان لآخر وان كانت التجمعات السكانية والمخيمات التي هجّر اليها أهل حمص والزبداني وداريا ووادي بردى والغوطة الشرقية والقلمون في إدلب وريفها والريف الشمالي بحلب هي المرشحة أولاً لمثل هكذا تحوّل بسبب انتشار الفقر والبطالة وغياب فرص العمل البديلة والخدمات الأساسية الاغاثية بمثل هكذا ظروف كارثية، ويضاعف في ذلك الانفلات الأمني بسبب الاقتتال بين الفصائل المتناحرة مما يولّد في النفوس حالة من اليأس والشعور بالخذلان وعدم الاهتمام ممن يفترض أنهم قادة الثورة بشقيها السياسي والعسكري. كل ذلك يؤسس لمجاعة جماعية لمن تبقى من حاضنة الثورة تنذر بقدوم كارثة مروّعة لايمكن التنبؤ بنتائجها والواجب علينا جميعاً أن ندق ناقوس الخطر.
هل من أحد يلتفت لهؤلاء البؤساء والمتسوّلين على رصيف الحرمان بعد أن كانوا أعزاء بأرضهم وسنداً للثورة ضحوا بكل ما يملكون من أجل نصرتها قبل أن ترمي بهم هذه الحرب القذرة في غياهب المجهول؟ واجب علينا وبشكل عاجل فعل الكثير لازالة تلك الآثار الكارثية في نفوس الشعب السوري ليعود إلى معايير ومبادئ الحرية والكرامة التي خرجنا من أجلها قبل أن نستطيع إعادة بناء الوطن من خلال مشروع وطني شامل، ومن البديهي البدء بالاصلاح الاقتصادي فالاقتصاد عصب الحياة لأي مجتمع بشري يسعى للانطلاق والتطوير على كل المستويات المعيشية والعلمية والاجتماعية والأخلاقية التي يحتاجها بناء الانسان الذي يبني الوطن.
عذراً التعليقات مغلقة