يقذف بعضهم تحليلات كيدية تشمت بالدم السوري، في أثناء غياب الحقيقة عن جرائم اغتيال شخصيات معارضة لنظام الأسد. ترى هؤلاء ينزلقون، بين حين وآخر، في صُحف كانت “توبّخ” مفاصل الفساد الكبيرة في بنية الحكم السوري عند بدايات الثورة، ثم راحت تنشغل بترويج قيامة النصر الخلبي على أيادي مليشياتٍ طائفية، بعد وقوفها الواضح مع مصادر تمويلها وتوجهها الإيراني.
صحف ترطّب عطش الموالين ببعض “الوقاحة” النقدية للداخل السوري في الفن والثقافة والمجتمع والسياسية، واشتد اليوم فيها عود الاحتفال بخطاباتٍ لأصحاب عمامات على الشاشة في أثناء مناسبات مختلقة لتزوير تاريخ المنطقة، تزويرا تعزّزه تحليلات متهكمة، قادمة من انهيار الإنسانية في مشهد الاعتياد اليومي الذي تسطّره الدبابات وطائرات القصف والتهجير وبراميل الإقصاء المتساقط فوق كل من رفض تأليه الجزّار.
اللعبة التي يعتبرها أصحاب المواقف الهلامية فرصة للانتقام من رغبة التغيير الشعبية، وزعزعة أعمدة العبودية المفروضة من النظام، هي لعبة تعرية الأغلبية صاحبة تبرير القتل، وعادة ما تتذرع بمقولات من وحي “كنّا عايشين!”، تقارن في الصُحف إياها، بين صور أطفال كانوا في مدارس ضمن سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية ومدارس تحت سيطرة النظام. المقصود: أطفال “داعش” وأطفال طلائع البعث.
ومن دون عِلم الشعب، طرأت الرايات السوداوية وسياساتها المشبوهة، ذات الرعب المؤقت أمام الرأي العام. وخيارات التغيير برأي ولاة إجرامها: استبداد الحاكم أو تطرّف الجهاديين أو الفصائل الإسلامية أو جبهة النصرة .. إلخ، وهنا تظهر الشريحة نفسها التي “كانت تعتاش” في حضن النظام، لتؤكد أن خروج أي حاضنةٍ شعبيةٍ كانت تحت إمرة تلك المكونات العسكرية المعارضة إلى طاولة حوار أو مناطق آمنة تحت سيطرة النظام أو حلفائه، هو موت محقق لأي حل في سورية.
تُرى، هل يُعتبر الشعب السوري في مناطق سيطرة النظام حاضنة شعبية ذات إرادة مستقلة؟ هل ينظر هؤلاء إلى أهالي الغوطة المهجّرين أنهم أعداء؟ لماذا إلى الآن لا تستوعب الأغلبية من السوريين أن الاختلاف السلمي ضرورة صحية، وأن التحريض على العنف دليل مباشر على حوار البنادق القائم منذ عقود إلى أن أخرج لدينا: سورية الحالية.
ما يُدمّر الآن هي “سورية النظام”، ولأن هذا الأخير أدرك أن لا عودة له في حياة هذه البلاد، قرّر الاستعانة بالآخرين عبر “إعادة الإعمار”، لتصبح فيما بعد سورية مقسمة إلى “سورية الروسية” و”سورية الإيرانية” و”سورية التركية” و”سورية الكردية” و”سورية الأميركية” و”سورية المعارضة” و”سورية الموالية” و”سورية المفيدة” و”سورية الضارة”.. إلخ. هذا المنطق المتخاذل، منطق التقسيم الاجتماعي والفكري والسياسي، هو الذي تُدفع إليه البلاد لسحق عفوية الثورة منذ البداية.
ولعل تفاصيل خروج الفصائل والأهالي من الغوطة تعكس الدور الأقوى على الأرض للولاءات الخارجية هنا: روسيا، فالشرطة التي أبرمت الاتفاق مع الفصائل المعارضة مثل ما حدث في دوما أخيرا هم الشرطة العسكرية الروسية، والضمانات التي قدمت هي من الروس، والإعلان عن تسليم المناطق وخروج المعارضة والأهالي جاء عبر قاعدة حميميم الروسية في الساحل السوري.
لا يختلف كثيراً من كان يرمي الحجارة والأحذية، والرصاص أحياناً أخرى، عن تلك الفنانة “الدرامية” التي نشرت صورة لعشرات حافلات التهجير لأهالي الغوطة المتجهين إلى الشمال في ريف حماة ومنه إلى إدلب أو ربما إلى جحيم المنافي! لتتباهى أمام الموالين بالتخلص من المعارضة بفضل مركبات “المصالحة” المهيمنة. إنهم أيضاً في ذات الخانة مع المنابر الممانعة و “عناصرها” في أوربا، المنابر الداعمة لإبادة المعارضة في الغوطة والمناطق المحرّرة، إذ يراها هؤلاء فرصة للوصول إلى “سورية المتجانسة” التي بات نظام الأسد يسوّقها لتفسير الاستعباد تحت هدن الطائرات ونظرية المعابر المؤدية بعشرات الشباب من أهل الغوطة إلى معسكرات اعتقال روسية، ترى أن “الخارجين من عباءة المعارضة المسلحة إلى مناطق سيطرة الأسد ملزمون بالدفاع عن النظام حتى الرمق الأخير”. وهذه هي نتائج العسكرة الموروثة من البطانة السوفييتية للأسد الأب، إذ لا يصبح هؤلاء من التائبين إلا بعد قتلهم “شهداء للأسد”.
هل يعقل أن يتيح السوري لأفكار الانتقام والتخلف السياسي الفرصة للسخرية من ابن بلده الذي لا يتوافق وإياه بشأن شكل الحكم واستبداد الأجهزة الأمنية المرعبة فيه، بينما يُهجّر من بلدته تحت القصف؟ هل يرى بعضهم في متنفس اللجوء خيارات متعددة لضمان أمنه، أو اتباعه لمن يدفع أكثر كي يقدم القربان والتنازلات عن أبسط أخلاقيات الوقوف ضد مشروع التغيير الديمغرافي الإيراني من جهة، والروسي الاستثماري من جهة أخرى؟
Sorry Comments are closed