إن صفحات الكفاح والتحرر المضيئة للشعب الجزائري تحفظ الجهود والتضحيات التي بُذلت، والأيادي البيضاء التي مُدت لها ووقفت بجانبها ضد المستعمِر الفرنسي، الذي طال عهد استعماره للجزائر ما يزيد على قرن وثلاثة عقود (1830 – 1962م). وعندما نقرأ تاريخ الكفاح في الجزائر نجد دورًا بارزًا للسعودية في عهد ملوكها سعود بن عبد العزيز (1954 – 1964) وولي عهده الأمير فيصل بن عبد العزيز (1964 – 1975) – رحمهما الله – في دعمه، بل والوقوف في خنادق الثوار الجزائريين حتى نيل الحرية والاستقلال. وستكون هذه المقالة دليل واضح على ذلك الدور السعودي، ضمن سلسلة مقالاتي التي خصصتها عن دور الحكومات والشعوب في دعم كفاح الشعب الجزائري آنذاك (1954 – 1962م).
1 ـ سياسة الملك سعود: “أنتم لستم جزائريين أكثر مني”
يمكن تقييم الدعم السعودي للثورة الجزائرية من خلال حوار الملك سعود بن عبد العزيز والأمير فيصل عند استقبال الوفد الحكومي الجزائري برئاسة السيد فرحات عباس، رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة بحضور رئيس مجلس الوزراء والأمراء، وكبار أعيان المملكة في 6 مارس 1959م: “بأنكم لستم جزائريين أكثر مني.. وبأن القضية الجزائرية هي قضية مقدسة، وبذلك هي فوق القانون وتشريع الدولة، ويجب تعطيل القوانين إذا هي وقفت في وجه ما تتطلبه من الجهاد في الجزائر”. ولم تبد السعودية تحفظاً في تأييدها للقضية الجزائرية حتى ولو أدى ذلك إلى التأثير السلبي على علاقاتها الودية مع الغرب، وذلك ما يمكن إبرازه من خلال تأكيد الملك سعود خلال استقباله الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة السيد هامر شولد في 9 يناير 1958م:
“إن علاقتنا السياسية مع فرنسا متوقفة على حل القضية الجزائرية حلاً يعيد لأهلها العرب حريتهم واستقلالهم، وإن العرب مرتبطون معهم برابطة الأخوة التي لا تنفصم.. وإن البلاد العربية لن تكتفي بإرسال المساعدات المالية لإخوانهم المجاهدين، بل إنني اقترح على الدول العربية اتخاذ خطوة إيجابية جديدة وهي مقاطعة فرنسا حتى تقر حق إخواننا الجزائريين في حريتهم واستقلالهم”.
وكرر الملك سعود ذلك باستمرار، واحتفالاً بالذكرى السابعة «1961م» لثورة نوفمبر، وجه الملك خطاباً في الإذاعة السعودية أكد فيه أن المملكة العربية السعودية لن تعيد علاقتها الدبلوماسية مع فرنسا إلا بعد استقلال الجزائر، وأكد أنه سيبقى السند المتين للثورة الجزائرية.
2- الدبلوماسية السعودية.. الكفاح في أروقة الأمم المتحدة
لقد كان التحدي السعودي للغرب في أول دعم سياسي علني من طرف المملكة للثورة الجزائرية وقضيتها العادلة، وهو ما لفت انتباه الأمم المتحدة بواسطة ممثل السعودية في نيويورك بتاريخ 5 يناير 1955م، وذلك بعد شهرين من اندلاع ثورة نوفمبر 1954م إلى أن الحالة التي تسود الجزائر خطيرة جداً ولابد من التطرق إلى معاناة الشعب الجزائري من السياسة التسلطية الفرنسية. كما حمّلت المملكة العربية السعودية، من خلال الأستاذ أحمد الشقيري، فرنسا المسؤولية الكاملة عما يحدث للشعب العربي في الجزائر. وكردّ فعل قامت بحملة قوية وشرسة ومضادة لسياسة الاحتلال الفرنسي المطبقة ضد شعب أعزل هو الشعب الجزائري.
واستمرت المملكة العربية السعودية تدافع عن حق الجزائر في الحرية والاستقلال حتى تحررت الجزائر. وكانت لها صولات وجولات على منبر الأمم المتحدة، ففي دورة عام 1956م كشف الوفد السعودي لوفود الدول الحاضرة في الجمعية العامة جرائم الاستعمار الفرنسي المرتكبة في حق الشعب الجزائري الأعزل، إلى جانب كل أنواع الإرهاب والتعذيب والتقتيل الفردي والجماعي المرتكبة في حقه.
لقد تبنت السعودية القضية الجزائرية على مستوى هيئة الأمم المتحدة، وفتحت المواجهة مع الحلف الأطلسي عموماً وفرنسا بوجه خاص، وبالتالي ربطت مصيرها بمصير القضية الجزائرية، وهذا ما جعلها عرضة لانتقادات الطرف الفرنسي والدخول معه في مواجهات قوية، وهذا ما ميز دورة عام 1956م الأممية، حيث عرض الوفد السعودي القضية الجزائرية ودافع عنها دفاعاً مستميتاً، توج بتسجيل الوفد الجزائري ضمن قائمة الوفد السعودي، وهو الأمر الذي أثار ثائرة الوفد الفرنسي برئاسة رئيس الخارجية السيد «بينو»، الذي اتهم السعودية بانتمائها إلى الشيوعية على اعتبار أنها تدعم الثورة الجزائرية.
بعد مرحلة المواجهة العنيدة بين السعودية وفرنسا، جاءت دورة 1958م التي سمحت للدول العربية بتعزيز موقفها في الهيئة الأممية والدفاع عن القضايا العربية ومنها قضية الجزائر، حيث راح ممثل المملكة العربية السعودية في هذه الدورة يوجه سهام الانتقادات اللاذعة للسياسة الفرنسية في الجزائر، ويرد بقوة وحزم على مزاعم فرنسا، ويناشد الدول الأعضاء في الهيئة الأممية العمل من أجل إقناع فرنسا والضغط عليها بكل الوسائل لإخراجها من الجزائر ورفع المعاناة عن شعبها المكلوم. وأدى تضافر الجهود وتنسيقها إلى النتيجة الحاسمة. حيث انتهت دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة في عام 1958م بقرارها الذي صرح بحق الشعب الجزائري في الاستقلال والحرية، على غرار كل شعوب العالم.
ومع انعقاد الدورة الرابعة عشر للجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة عام 1959م، أعلن الوفد السعودي من على منبرها مرة أخرى عن ضرورة تطبيق كل القرارات السابقة المتعلقة بالقضية الجزائرية، ووقف ممثل الوفد في هذه الدورة يشرح للمجتمع الدولي كل الأخطار الناجمة والتي ستنجم مستقبلاً عن الإدعاءات الفرنسية الباطلة، والهادفة إلى الاحتفاظ بالجزائر بحدّ السيف متحدية بذلك الشعور الجزائري والعربي والدولي.
كما شهدت دورة عام 1960م نَفَساً جديداً بالنسبة للوفد السعودي، الذي راح وبصورة علنية يوجه الاتهامات إلى الولايات المتحدة الأمريكية بتواطؤها مع فرنسا ضد ثورة الشعب الجزائري وقضيته، وما ميز التدخل السعودي في القضية هو صراحة ممثلها وهجومه الشرس على فرنسا وحلفائها، حيث جاء في إحدى تدخلاته ما يلي: ترى من الذي جعل القضية ملتهبة؟ أهي خطبي النارية؟ أم أسلحتكم النارية الفتاكة؟
وفي دورة 1961م الأممية بدأت فرنسا تشعر بدنو أجلها في الجزائر، لذا راحت تبحث لها عن مخرج آخر وبطرح مغاير لطروحاتها السياسية السابقة. وقد تمثل هذا الطرح الجديد في الاحتفاظ بالصحراء الجزائرية والمناطق الاستراتيجية العسكرية مثل ميناء أرزيو، إلى جانب حقول البترول التي اكتشفت من طرفها، لكن الوفد السعودي عارض هذه السياسة الجديدة، واعتبر المطالب الفرنسية غير منطقية، على اعتبار أن هذه المناطق هي جزء من الوحدة الترابية للجزائر، ولا حق لفرنسا في المطالبة بها.
ومما قاله ممثل الوفد السعودي في هذا الصدد ما يلي: “طال كلامنا في الأمم المتحدة عن قضية الجزائر، وطال عصيان فرنسا لقرارات الأمم المتحدة، لكن صبر الشعب الجزائري لن ينفذ، وسيظل يحمل السلاح حتى تتحقق له حريته واستقلاله”.
وفي عام 1962م دعمت السعودية طَلب الجزائر المستقلة على أن تكون عضواً في الهيئة الأممية. وقد كان للجزائر ما أرادت لتزيد من التمثيل العربي قوة في هذه الهيئة. وقد وقف ممثل الوفد السعودي كعادته يُلقن فرنسا دروساً في التاريخ العربي وبطولات شعوبه قاطبة، مرحباً بالعضو العربي الجديد، وملتفتاً في نفس الوقت إلى الوفد الفرنسي قائلاً له: الآن انتهت الحرب بين الجزائر وفرنسا، والآن ينتهي الحوار بيننا وبين فرنسا في الأمم المتحدة.
3 ـ المدد المالي واللوجستي السعودي للشعب الجزائري:
قال أحمد توفيق المدني أحد ممثلي جبهة التحرير في الخارج: كانت الضيافة ـ بالرياض ـ ممتعة وقابلنا الملك سعود بن عبد العزيز مقابلة حارة، واستمع إلى كلامي في تفهم عميق، وقال: أبشروا سيكون لكم بحول الله ما تطمئن إليه قلوبكم، ومما قاله: قررت أننا نقوم بعد شهر بفتح اكتتاب شعبي عام، أبدأ فيه بنفسي وأضع فيه مقداراً جسيماً ويشارك فيه الأمراء، ويشارك فيه الشعب، وستكون النتيجة فوق ما تتصورون. ومن تفاصيل هذا القرار:
- قرر الملك أن يفتح الاكتتاب بمبلغ مائة مليون فرنك على أن يكون نصيب الحكومة 250 مليون وهو يضمنها.
- أن يكون الدفع لكم رأساً حسب ما طلبتم، يوضع في حسابكم بدمشق.
- مهما أردتم سلاحاً أو مالاً أو مسعى سياسياً، فاتصلوا بالملك رأساً بواسطة رسالة أو رسول وهو موجود لتحقيق ذلك حسب الجهد والطاقة.
- خصص مبلغ قدره 250 ألف جنيه سنوياً لحرب التحرير الجزائرية سلمت عن طريق جامعة الدول العربية.
- حدد الملك يوم 15 شعبان يوم الجزائر لجمع التبرعات المالية. وفي مناسبة 15 شعبان 1958م كان الملك أول المتبرعين بمليون ريال سعودي بالإضافة إلى مليونين ونصف من الحكومة.
- من بين المساعدات المالية الخاصة التي كانت تقدمها السعودية هو تقديم مليون جنيه إسترليني للحكومة الجزائرية المؤقتة «جويلية 1961م»، وبهذه المناسبة وجه السيد فرحات عباس رئيس الحكومة المؤقتة رسالة إلى الملك مؤكداً فيها أنه: لا يسعني يا صاحب الجلالة إلا أن أرفع إلى جلالتكم شكري الصادق، واعتراف وتقدير حكومتي وشعب الجزائر لما بذلتم وتبذلونه في سبيل نصرة قضيتنا، التي هي قضية الأمة العربية التي باعتزازها يعز الإسلام. وإن حكومة وشعب صاحب الجلالة الذي ناصر قضيتنا ولا يزال يناصرها منذ البدء؛ لا يستغرب منه أن يظل النصير الأول لقضيتنا العادلة.
لاقت قضية الجزائر وثورتها ضد فرنسا الإسناد والدعم في عهد الملك سعود وأخيه فيصل، وكانت لهم أيادي بيضاء في انتصارها بالمحافل العربية والدولية. ووقفوا مع شعب الجزائر حتى نال حريته وكرامته، وظلوا اليد الحانية على أبنائه خلال عهود الاستقلال والإعمار وبناء الدولة الوطنية فيها.
مراجع المقال:
- أحمد توفيق المدني، حياة كفاح
- إسماعيل دبش، السياسة العربية والمواقف الدولية
- عبدالرزاق قسوم، مع الثورة الجزائرية.
- علي الصلابي، كفاح الشعب الجزائري، إستانبول، دار الروضة، ج3، ص. ص 653 – 658.
- مريم صغير، مواقف الدول العربية من القضية الجزائرية.
Sorry Comments are closed