خطيب بدلة
حضرتُ قبل أيام، في القرية، سهرةً ضمت لفيفاً من أعمامنا المحترمين الكبار بالسن، وقد وجدنا نحن الشبانَ متوسطي العمر التفاهمَ معهم صعباً، بسبب ضعف السمع، عدا عن الحركات التي يُجرونها أثناء التحدث والإصغاء، كاللهاث، والسعال، وتركيز سماعات الأذنين، والنظارات الطبية، واستخدام بخاخات الربو، وقولهم للمتحدث “نعم؟” أيش قلت؟ ما فهمت عليك..
وقد حللنا المشكلة بطريقة عَمَلية، وهي أننا منحناهم الحق في إدارة السهرة بالطريقة التي تعجبهم، فانبسطوا، وبادر خالي عمر يقول للحاج ناصر الفراري، مقترباً من أذنه، مكوراً يديه حولهما كالبوق:
-إحكِ للشباب يا حاج ناصر كيف زورتم الانتخابات قبل خمسين سنة.
سألتُ الحاج ناصر مندهشاً: ماذا؟ زورتم الانتخابات؟
فقال متهكماً:
-لا تخف أخي، التزوير حصل على زماننا، أما أنتم أبناء هذا الجيل، فليس لكم علاقة بتزوير أو خلافه. أخي، اعتبروا هذه القصةَ فولكلورية، واحكوها لأولادكم من باب التندر!
قلت: آسف للمقاطعة، تفضل.
قال: كان كل شيء، يا عين عمك، مرتباً ومدروساً، ومرشحنا، بعون الله، قوي، وكنا واثقين من نجاحه. ولكن، فجأة نبق لنا مرشح داهية، وله أعوان يقظون. وكنت أنا مندوباً لمرشحنا إلى صندوق البلدية، وأما المرشح الآخر فكان له، على الصندوق نفسه، مندوب يشبه العفريت من حيث أنه لا ينام، ولا يغمض، ولا يرف. حاول الأصدقاء من جماعتنا إلهاءه، ورشوته بغداء، وما شابه ذلك، ولكن، دون جدوى.
كان الوقت يمضي، وأنا أفكر بحيلة، حتى وجدتُ ضالتي في حكاية البنت شهرزاد التي كانت تحكي لشهريار قصصاً مثيرة، ليؤجل قتلها ليلة أخرى.
بعد الانتهاء من عملية الاقتراع، تقدمت من مندوب المرشح الآخر وقلت له:
-تعالَ أحكِ لك حكاية حتى تنتهي اللجنة من فرز الأصوات.
ورحت أحكي له- بينما كان أصدقائي يفتحون صندوق الاقتراع من أسفله، ويسحبون أوراق المرشح الآخر، ويضعون مكانها أوراقَ مرشحنا- حكايةً اخترعتها في تلك اللحظة، زاعماً أن أبي، رحمه الله، سافر، أيام السفربرلك، إلى اسطنبول، مشياً على الأقدام، لأنه لم يكن يمتلك دابة يمتطيها، وبقي أكثر من مئة يوم حتى وصل.
قلت له إن أبي، بمجرد ما غادر بلدة “إدلب”، وصل إلى قرية جبلية قريبة، ووقع في مشكلة. كان أهل القرية، بالمصادفة، يقتتلون فيما بينهم، وجاء هو ليخلصهم، فتعرض للضرب من الطرفين! وفي الليل، زلت قدمُه، ووقع في جب عميق، لا قرار له، مكث فيه ليلتين شارف خلالهما على الهلاك، وإذا بابن حلال يمر به، ويسمع أنينه، فانتشله. تابع سيره حتى وصل إلى منطقة جبلية تدعى “قصير أنطاكية”، وهناك وقع بين أيدي قطاع الطرق الذين فتشوه تفتيشاً دقيقاً فلم يعثروا معه على شيء يستحق الذكر، فقرروا أن يتسلوا بإعدامه.
وكان بينهم قاطعو طرق ذوو قلوب رقيقة، (حمائم) لا يحبون منظر الموت والدماء، فاعترضوا على إعدامه، بينما أصر (الصقور) على رأيهم، فاحتدمت بينهم مشاجرة عنيفة، وجدها أبي فرصة سانحة، وهرب بجلده.
وفي بلدة أنطاكية الشهيرة أحبته امرأة جميلة، وطلبت منه أن يرافقها إلى بيت أهلها، ليخطبها منهم، ففعل، وحينما وصلا أمام البيت خرج ابن عمها المختبئ في منعطف الزقاق، وأطلق عليها طلقة واحدة، فخرت صريعة، ثم أدار البارودة إلى صدر أبي وضغط على الزناد، وإذا بالطلقة تستعصي، فهجم أبي عليه، وصارعه، وغلبه، وأخذ منه البارودة، ووقتها وصل رجال الجندرمة فوجدوا المرأة غارقة في بركة من الدماء، وأبي واقفاً والبارودة في يده، فظنوا أنه قاتل المرأة، وزجوه في السجن، ولم يخرج منه إلا بما يشبه المعجزة،.. وفي منطقة “غاليبولي” وقع أسيراً في يد الألمان الذين اعتقدوا أنه جاسوس لصالح الإنكليز والفرنسيين، فقبضوا عليه، وحولوه إلى السجن، وقرروا إعدامه، ولكن الحرب وضعت أوزارها، مخلفة وراءها الخرابَ والموت، وأبي السجينَ الأعزلَ.
التقط الحاج ناصر الفراري أنفاسه المتعبة، وسعل، وأشعل سيجارة، ثم تابع يقول: بقيت أكثر من ساعة أحكي لمندوب المرشح وقائع مخترعة من خيالي، وكلما خرج أبي من ورطة أوقعته في ورطة أكبر، حتى غمزني الأصدقاء ليعلموني بأن عملية تزوير الأوراق الانتخابية قد تمت بنجاح! فوقفت مستأذناً منه. ولكنه كان قد تشوق على نحو كبير لمعرفة تتمة تفاصيل رحلة أبي العجيبة إلى عاصمة المملكة العثمانية، فأمسكني من يدي قائلاً لي:
-إذا سمحت يا عم، أكمل لي القصة.
قلت: القصة انتهت يا عين عمك.
قال مندهشاً: كيف انتهت، وأبوك ما يزال في سجن اسطنبول؟ طيب قل لي، كيف خرج، وكيف رجع إلى إدلب؟
قلت له وأنا أشير للأصدقاء أن ينتظروني حتى نخرج من المركز الانتخابي معاً: كان رحمه الله مستعجلاً جداً، فرجع بالطيارة!
Sorry Comments are closed