دوما.. البحث عن وطن للسوريين

حامد الكيلاني12 أبريل 2018آخر تحديث :
دوما.. البحث عن وطن للسوريين

تعرضت الثورة السورية منذ انطلاقتها في العام 2011 إلى إطلاق نار متعدد، إن في وضح النهار أو من تلك البنادق المجهولة، ومع جراحها النازفة اقتيدت إلى حفلات إعدام استهدفت إسكات أصوات الثورة ومحو أي أثر لها.

ما فعله النظام السوري من جرائم مشينة يدل على أن الرعب الذي يسكنه أسوأ من نهايته كنظام سياسي يرفض التسليم بحقيقة العمر الافتراضي لأي سلطة مهما طاولت في البقاء على قمة الاستبداد؛ فما من وسيلة للتخلص من الأصوات الرافضة للعبودية التي سيظل شيء منها، بل شيء كبير منها في الغد؛ فلا معنى للصمود إلا بعد الصدمة وبعد الانكسار.

ماكنة التدمير تسحق في طريقها الآلاف من الأبرياء العزل، لكن ما لا تدركه آلة العنف أن أرواح الضحايا تزدحم في نهاية الممر لتطلق كلمة لها معنى في لحظة طالما صنعتها حياة الشعوب، وهي تركل بأقدامها رؤوس الطغاة وكبار عتاة القتلة الذين تصادف مرورهم العابر مع حظ الشعب العاثر في فترة لم تكن من اختيارهم، لكنهم تحملوا أعباءها ونتائجها، وتكبدوا التضحيات في كل محطة من يومياتهم ويوميات الثورة.

من يتصور أن الغوطة الدمشقية بعد الهجوم الكيمياوي عليها أصبحت بمثابة إعلان رثاء أو شهادة وفاة الثورة السورية يرتكب مغالطة سعى لها النظام في سوريا، ومن خلفه النظام الحاكم في إيران، ومن خلفهما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لترسيخها في مفاضلة الاختيار بين بقاء الحاكم أو المجهول، رغم أن خروقات العنف والانتهاكات ماثلة في كيفية تصدير الموت كسلعة تبور أمامها كل منتجات العقل واللغة ومخرجات الأمل.

توديع الثورة من قبل بعض الأحرار في العالم على طريقة التغيير الديموغرافي في الغوطة الدمشقية أقرب ما يكون إلى الاستسلام للميليشيات الإيرانية والشرطة الروسية وطائرات السوخوي 24 و25 و34 وقنابل زاب المحرقة وقنابل ك وقنابل أوداب وصواريخ 13SBS وضربات غاز السارين المعدل والهجوم الكيمياوي بالكلور المعالج بقصف البراميل المتفجرة.

الرئيس الأميركي دونالد ترامب يلقي باللوم على إدارة الرئيس السابق باراك أوباما في عدم حل الأزمة السورية في العام 2013 بعد الهجوم المروع بغاز السارين على الغوطة الدمشقية في تلك الضربة التجريبية لسياسة حافة الهاوية لاختبار مقياس الخط الأحمر لأوباما، والذي تراجعت من بعده الولايات المتحدة الأميركية عن دورها كدولة عظمى في الشرق الأوسط تاركة فراغاً نوعياً أدى إلى توقيع الاتفاق النووي مع إيران، مقابل إغراق المنطقة بالفصائل الطائفية المسلحة وتمدد النفوذ الروسي كقوة دولية راعية للشرعية في أسوأ استخدام لشرعية سلطة كسلطة النظام الحاكم في سوريا. لقد أدت مهمات الإرهاب الإيراني وإرهاب تنظيم داعش إلى ما يشبه عملية بزل واسعة تسبق غرس التواجد الروسي كمبرر لإنهاء الأزمات، دون الالتفات للخسائر البشرية أو المادية أو تبعات القانون الدولي الذي تم ترويضه على تقبل الإحباطات والانتكاسات.

الرئيس ترامب بدأ يطبق شعاره الانتخابي “أميركا أولا” على قرار سحب القوات الأميركية من الشمال السوري، كجزء من تخفيض الإنفاق بعد الانتهاء المفترض من مرحلة داعش ثم تراجع بعد توصيات كبار قادة البنتاغون بالإبقاء على تلك القوات لمرحلة زمنية قادمة.

ترامب قدم هدية غير متوقعة وغير مبررة للنظام السوري وللنظام الإيراني ولروسيا بما يعادل انسحاب الرئيس أوباما من تعهداته في معاقبة النظام السوري في حالة تماديه بارتكاب المجازر الكيمياوية ضد الشعب السوري.

ترامب برغبته في الانسحاب وتهديده المسبق بالرد الساحق تجاه أي هجوم كيميائي أعاد النظام السوري للتجريب مرة أخرى بحياة المئات في مدينة دوما، مستغلاً الظهير الروسي في الدفاع عن مكتسباته العسكرية والتفاوضية على الأرض، وفي مجلس الأمن لتعطيل أي قرار أو تنديد إجرائي من المجتمع الدولي، وبدعم الخارجية الروسية التي لم يعد لها سوى النفي والسخرية من الموت الجماعي للأبرياء، أو إصدار شهادة حسن الأخلاق للنظام السوري.

توقيتات جريمة الكيمياوي في دوما ترافقت مع الذكرى السنوية الأولى لمجزرة خان شيخون واستهداف مطار الشعيرات بالصواريخ الأميركية، وتأتي بعد يوم واحد من اجتماع مجلس الأمن لمناقشة تداعيات استمرار الهاجس الكيمياوي في الحرب السورية، وبعد تحذيرات استباقية متتالية من الجانب الروسي من احتمال توجيه اتهامات للنظام السوري بشن ضربات كيمياوية في مرافعة دفاع ساذجة.

الولايات المتحدة الأميركية استلبت دورها في العراق تحديدا عندما لوحت بهشاشة سياستها غير المستقرة على تصعيد لهجتها مع إيران واقتراب مراجعة الاتفاق النووي الموقع معها في 12 مايو، مع ما يرافق ذلك الموعد من تهديد إيراني برد غير متوقع إذا قرر الرئيس ترامب الانسحاب من الاتفاق.

القرار المرتبك بالانسحاب الأميركي من سوريا فتح الأبواب الإيرانية بقوة للتصدي لتواجد القوات الأميركية على أرض العراق وبتشكيلات ميليشياوية استوعبت عناصر متطرفة حتى من تشكيلات داعش وتحت إشراف قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني في صيد احترافي لمزاج الرئيس ترامب ومؤثراته في السياسة الأميركية، بما يعتبر هجوماً مضاداً ومبكراً لاستشعار رد الفعل تجاه المتغيرات الجوهرية في فريق الرئيس ترامب.

كان الإرهاب عموما، وتنظيم داعش خاصة، فرس الرهان لخلط الأوراق على الثورة السورية رغم أن المعارضة والفصائل المسلحة المعتدلة انتبهت إلى الشرخ الذي تسبب به الإرهاب وتوجهت لمحاربته في معارك متعددة لكنها لم تستطع، بحكم تواجد العديد من الفصائل بمرجعيات سياسية وعقائدية مختلفة، تنقية خطها الوطني العسكري.

كان بديل الثورة السورية في مواجهة الإرهاب هو القتال إلى جانب النظام، لكن أي نظام سوري يتقبل الانقلاب على نفسه وإرهابه لصياغة سوريا أخرى، وأي معارضة سياسية مسلحة يمكن أن تثق بنظام كالذي في دمشق بتاريخه المتفرد في القمع والاستئثار بالسلطة. أهم رافد استقى منه النظام السوري الاستبداد، كامن في معرفته بتورط المجتمع الدولي في دعم الانقلابات ضد بعض الأنظمة وما تخلف منها من فوضى غير مسبوقة، ولدرايته بعدم تلقي العقاب بما يتناسب وحجم الإبادات، إلا باحتمال انتصار الثورة السورية.

لكن مع إقحام الميليشيات المذهبية الخاضعة للمشروع الإيراني في الصراع واكتشاف روسيا لمنجم سوريا كمقايضة على المدى البعيد أو القريب بالعقوبات المفروضة عليها لضمها شبه جزيرة القرم، وملابسات علاقتها مع أوكرانيا وما يجري في بحر البلطيق، أصبح النظام السوري ربما لا يمثل نفسه إلا بما يتعلق بغروره وتعاليه في ذاكرة سلطة لم يتبق منها سوى أوهام حاكم إلى  الأبد. تحولت سوريا إلى جيوش من اللاجئين والنازحين والمشردين والأرامل والأيتام والمعوقين والقتلى، تماماً كما حدث في العراق، وذلك ما يسمح للنظام الحاكم في سوريا بالقول إن الاتهام الموجه إليه باستخدام السلاح الكيمياوي بالغوطة الشرقية إسطوانة مملة وغير مقنعة.

ذلك لأن الملل سلاح يعتمده محور الأنظمة في روسيا وإيران وسوريا، فهو السلاح الذي مهد تماما لتقبل المجتمع الدولي لوقع الجرائم ضد الإنسانية، وأعطى الانطباع أن القتلى الأبرياء من المدنيين هم مجرد عدد في عجلة الأمس تؤسس لواقع تجاذبات سياسية ترسي مصالح استخبارية أو اعتداد بكبرياء شخصي، يمكن أن يتحول إلى هجوم كيمياوي أو لغة تأديب مقابلة أو إهانة لم تعد تعني شيئا لنظام متوحش يخاطر باستقرار العالم.

لذلك نؤكد أن أي ضربة للنظام في سوريا، سواء كانت منفردة من الولايات المتحدة الأميركية أو بمشاركة فرنسية، تصب في النهاية في مصلحة النظام وإيران وروسيا إذا كانت النتائج غير حاسمة ولا تؤثر في حل العقدة السورية للضغط باتجاه إيجاد مسار للحل السياسي بفرض فترة انتقالية تؤسس لسوريا بنظام ديمقراطي لجميع السوريين.

ثورة دامية وتاريخية كالثورة السورية أقرب إلى قصيدة راقية في تاريخ الثورات الإنسانية؛ ثورة لن تُرثى أبداً وستحملها الأيام بنشوة غامرة إلى لحظة فارقة تستحق الذكر؛ أما الإبادات والرعب والموت فلا تعني بعد هذه التضحيات إلا بقدر ما تعني أسئلة المقاومة من الآمال فوق حطام الأجوبة المنهارة.

المصدر العرب اللندنية
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل