في يوم واحد، “يوم الأرض”، سقط سبعة عشر فلسطينيا برصاص أطلقـه الإسرائيليون بدم بارد على متظاهرين في غزة أرادوا التذكير بـ“حق العودة”. ما يثير الاستغراب أن العالم كله وقف متفرّجا على المأساة التي كانت الحدود الدولية لغزة مسرحا لها.
بغض النظر عن الظروف التي أحاطت بحشد كل هذا العدد من الفلسطينيين على الحدود الدولية لغزّة والأسباب التي دفعت إلى ذلك، كان ملفتا أن المنطقة والعالم في مكان آخر بعيد عن فلسطين. يزداد البعد عن فلسطين لدى المقارنة بين ما يفعله الإسرائيليون بالفلسطينيين من جهة، وبين ما يفعله النظام السـوري بالسوريين والميليشيات المذهبية العراقية بالعراقيين من جهة أخرى.
تلك هي المأساة التي يعيشها الشرق الأوسط في هذه الأيام التي يجري فيها تهجير الآلاف من أهل الغوطة إلى مناطق سورية أخرى، من بينها إدلب، من أجل إخلاء محيط دمشق من أكبر عدد ممكن من السنّة. هناك مأساة أخرى في العراق حيث مدينة مثل الموصل تعرضت لعملية تدمير ممنهجة على يد ميليشيات مذهبية وذلك بحجة الحرب على “داعش”. خرج “داعش” من الموصل قبل سنة، لكن الحملة على الموصل وأهلها لم تنته بعد.
في ظل ما يرتكبه النظام السوري بدعم إيراني وبغطاء من سلاح الجوّ الروسي، وما جرى وما زال يجري في العراق، تستطيع إسرائيل أن تفعل ما تشاء مع الفلسطينيين. هناك من يوفّر رخصة قتل للاحتلال الإسرائيلي ويجعل منه احتلالا رحيما، نسبيا طبعا، مقارنة مع ما يدور في سوريا وفي العراق. فمقتل سبعة عشر فلسطينيا في يوم واحد، عاد بعده الهدوء إلى حد ما، ليس سوى تفصيل مقارنة بعدد الضحايا السوريين الذين يسقطون يوميا، فضلا عمّا يحل في هذه المنطقة أو المدينة العراقية أو تلك.
في سوريا والعراق، هناك سوريون وعراقيون يهجرون أبناء الشعبين من أرضهم. وفي فلسطين هناك إسرائيل، التي تدعي أنها تمثل يهود العالم، والتي هجرت الفلسطينيين من بيوتهم وفرضت أمرا واقعا. ترفض إسرائيل أي بحث في صيغة تضمن لشعب مظلوم استعادة بعض من حقوقه المعترف بها دوليا.
المخيف أنّ على الفلسطينيين أن يواجهوا وحيدين المشروع الاستيطاني، أي إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل التي تمتلك هدفا واضحا كلّ الوضوح. يتمثل هذا الهدف بالتخلص نهائيا من قطاع غزّة الذي كان انسحابها كاملا منه في صيف العام 2005 من أجل الإمساك نهائيا بجزء كبير من الضفّة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.
ما يدور في سوريا وحتى في العراق يسهّل المهمة الإسرائيلية. يفسر ما يدور في هذين البلدين العربيين هذا الصمت الدولي عن جريمة إسرائيل في “يوم الأرض”، وما قد يليها من جرائم. هناك ما يزيد على نصف مليون قتيل في سوريا منذ العام 2011. هناك مدن دمّر الجزء الأكبر منها مثل حمص وحماة وحلب. هناك مدن مثل دمشق يجري تغيير لطبيعة تركيبتها السكّانية.
أما العراق، فما يدور على أرضه وإن بأسلوب مختلف، ليس بعيدا عما يدور في سوريا على الرغم من عدم وجود ثورة شعبية فيه. فبحجة الانتقام من صدّام حسين ونظامه، طرأ تغيير كبير على بغداد وقبل ذلك على البصرة. أما الموصل، فقد أزيل قسم منها من الوجود. هناك أحياء دمرت تدميرا كاملا في الموصل ولا أمل في أن يعود إليها أهلها في يوم من الأيّام.
منذ تسليم الجولان لإسرائيل في العام 1967، وكان حافظ الأسد لا يزال وزيرا للدفاع، لم يفعل النظام السوري شيئا سوى تقديم الخدمات لإسرائيل. أغرق النظام السوري لبنان بالمقاتلين الفلسطينيين الذين كانوا في الأردن وطردوا منه بعد محاولتهم الاستيلاء على المملكة في العام 1970. يروي رجل لعب دورا كبيرا في التاريخ الحديث للأردن على الصعيدين العسكري والسياسي هو الأمير زيد بن شاكر، رحمه الله، كيف انتقل المسلحون الفلسطينيون من الأردن إلى لبنان.
يقول زيد بن شاكر الذي كان قائدا عسكريا أردنيا في 1970 إن السلطات السورية كانت تحتجز الفلسطينيين الفارين من الأردن في اتجاه الأراضي السورية. كانت تضعهم في شاحنات تتولى نقلهم مباشرة إلى لبنان لإغراقه بـ“الفدائيين”. لم يكن مسموحا للمسلّح الفلسطيني قضاء، ولو ليلة واحدة في سوريا في طريقه إلى لبنان!
كان حافظ الأسد منذ ما قبل احتكاره السلطة بكاملها في سوريا في تشرين الثاني – نوفمبر 1970، يتاجر بالفلسطينيين وقضيتهم. لا حاجة إلى شرح طويل لكيفية إغراقهم في الحرب الأهلية اللبنانية التي كانوا طـرفا فيها حتى السنة 1982 وكيف قطع الطريق باكرا على أي محاولة جدّية لإيجاد تسوية معقولة ومقبولة، وذلك قبل أن يبتلع الاستيطان الجزء الأكبر من الضفّة الغربية.
ما نشهده اليوم هو استمرار لتقديم الخدمات إلى إسرائيل. الفارق أن إيران الشريكة في الحرب على الشعب السوري واللاعب الأساسي في العراق منذ العام 2003 والمحرك للعبة إنشاء ميليشيات مذهبية على غرار تلك التي يضمّها “الحشد الشعبي”، تسهل المهمة الإسرائيلية.
تظهر إسرائيل عندما تقتل الفلسطينيين بواسطة قناصين، بحجة أنهم أرادوا اختراق الحدود الدولية، في مظهر من يتعرّض لاستفزاز. ترفض الإدارة الأميركية أي إدانة للجريمة المرتكبة. هناك تفهّم أميركي تام لما تقوم به وترتكبه. أكثر من ذلك، هناك تشجيع أميركي لإسرائيل. ظهر هذا التشجيع عندما أعلن الرئيس دونالد ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، متجاهلا كلّ القرارات الدولية، بما في ذلك أن القسم الشرقي من المدينة محتل في العام 1967.
إنها طرف مستفيد من كلّ ما يدور في المنطقة ومن المأساتين السورية والعراقية. ما هو مؤسف أن الجانب الفلسطيني لا يستوعب هذا الـواقع، وقد تصرّف بعد المجزرة التي حصلت في “يوم الأرض” وكأن المنطقة لم تتغيّر وأن العالم لا يزال يعتقد أنّ النزاع العربي – الإسرائيلي، ومحوره القضيّة الفلسطينية، لا يزال هو المهيمن على الشرق الأوسط. كشفت شاشات الفضائيات العربية بؤس القيادات الفلسطينية التي تحدثت عن المجزرة. كان هذا البؤس من ناحيتيْ الشكل والمضمون، من دون حاجة إلى الدخول في التفاصيل.
الواقع أن ثمّة حاجة إلى إعادة نظر جذرية في الخطاب السياسي الفلسطيني. لا تزال القضية الفلسطينية مهمة، لكن انقلابا حصل على الصعيد الإقليمي في مثل هذه الأيّام من العام 2003 عندما دخل الجيش الأميركي بغداد، وقدّم العراق على صحن من فضّة إلى إيران.
إذا كان مطلوبا اختزال ما جرى في السنوات الـ15 الأخيرة، الممتدة من سقوط بغداد في التاسع من نيسان – أبريل 2003، إلى يوم الثلاثين من آذار – مارس 2018، يسهل قول الآتي: لم تكن إيران الجانب الوحيد المستفيد من إلغاء العراق ومن ثم تفتيت سوريا. بات في استطاعة إسرائيل أيضا أن تمرّر جرائمها في المنطقة من دون أن تجد من يريد محاسبتها ولو من باب العتب.
عذراً التعليقات مغلقة