قال الكاهن: أي حلم هذا الذي يطوف خيالك؟ لا شيء يستحق كل هذا العناء. قضيّتك التي جعلتك تهوج كالموج أقوى منك، وحكايتك كانت رؤى سجين قد سبقك الى منصة الإعدام بَكَته المشنقة واستغفر حبلها من ذنبه، كان سعاله يزعج جدران السجن فتشكوه إلى السجّان فيحوِّل سعاله إلى صمت تضجّ به وديان صدره بلا صدى أو رجع، أو كرمادِ فارسٍ في قبرٍ علاه قصر منيف لفارسٍ من فرسان هذا الزمان، حلمك كأحزان اليتامى وكليلِ الثكالى، وشجون الحزانى، وكعاشق يتوسل ربّ البرايا أن يعافيه من عشقٍ تملّكه فضاق صدره وعظم بلائه وتاه فكره ولسان حاله يقول ظننت العشق اأاعيب أطفال فأرهقني العشق وأضناني الضيم.
– ماذا تقول أيها الكاهن؟ حلمي ليس إلا محاولة لان أتقيأ عفن الماضي وتشييد حاضر نظيف وأرنو إلى مستقبل بلا قيود بلا سجنٍ وسجّان، حلمي أن أعيش حقوقي المصانة في الشرائع والدستور والقوانين، لا أريد إلا حريتي وكرامتي، أريد أن أحيا بلا رجل أمن هو أقرب إلى عفريت من الجنّ يعدّ علي أنفاسي ويحاسبني على عدد الشهقات والزفرات ويقنن علي الهواء والماء.
أريد أن أرى في بلدي صاحب الفخامة يحترم فخامته وصاحب المعالي يحترم معاليه، أريد أن أرى في بلدي جندياً يحميني من غدر الأعادي وقاضٍ ينصفني، وقوانين بلا استثناءات، ومسؤولين بلا امتيازات، ولصوصاً بلا حصانات.
قال الكاهن: حقوقك المصانة؟ يا هذا؛ حقوقك المصونة دعها في نفسك دفينة، لا تحاول أن تخرجها من قمقمها فيحلّ عليك غضب المارد فيكسر المصباح على رأسك ويدفنك في أعماقك وأنت حيّ. إيّاك ثم إياك أن تقصص أحلامك على العابرين فإنهم سدنة المارد فيغزوك في أحلامك ويقظتك ويجعل أيامك كيوم النشور، سيغتال أطفالك كالأفعى التي تغتال صغار الطيور، ولن يبقي لك ملجأ تأوي إليه، سيهدم الجدار تلو الجدار وسيجعلك تعبر إلى حتفك بلا جسور، وسيعطِّل الزمان والمكان ليجعلك بلا موطن وبلا شهور، وسيصب عليك الحمم صبّاً وسيثير الأرض براكين من تحتك، سيمزقك إلى أشلاء وينثر أشلائك على الذرى، لن يسمح للأرض أن تضمك ولا للسماء أن تظلّك، سيلوث أنفاسك ويحطِّم كبريائك، سيربّي بك الزمان والمكان والخلّان فيخذلوك، فلا تغامر أيها الرجل.
قلت له، أيها الكاهن: المَرَدة مجرد هياكل منهارة، أنهكتها التجارة ونخرتها الدعارة، وأزلامها مجرد بغايا أغرقتها الرزايا فيباعون ويُشترون بدرهم ويبيعون بدفء حضن عاهرة الأمير والإمارة.
أيها الكاهن: ويلٌ لحالمٍ كسول عن حقه نَزول، فتلك حقوق مسلوبة لا تُنال بالأماني ولا بالتّمني بل تسترد بالقوة والتغلب على خذلان الزمان والمكان والخلان، فإن الحقوق ليست رؤى يُؤِولها العابرون ولا أحلاماً يفسرها المفسرون، إنها مزيج أنفاس الصدور ونبضات القلوب. فإن كان أعداؤنا كقريش فقدوتنا أهل بدر، وإن كانوا من أهل الأحزاب فقدوتنا أصحاب الخندق، هذه ثورتنا، وهؤلاء رفاقنا، يزهر من خطواتهم كل شبر ويرتوي من عرقهم الموسم، فمزيج هذا التراب من عطر دمائهم وهذي الأزهار من بعض أشلائهم، وتلك الربى من عظامهم، وهذا الضحى من سنا وجوههم، وتلك الأنجم من ضيِّ أنوارهم، ما زلت موقناً أن حريتي وكرامتي وعدالتي هي أسباب ثورتي وأنها جميعاً موطني، موطني طهرٌ بلا مردة وبلا قادة تجرّهم داعرة وأزلامهم بغايا منتنة وصنعتهم تجارة قذرة.
إن الحقوق يا سيد الكهان ليست للكهانة.
عذراً التعليقات مغلقة