مذكرات عاصمة الثورة – الجزء الأول
“الله سوريا حرية وبس”، كانت أولى الكلمات التي صدحت بها حناجر المتظاهرين في مدينة حمص في 18 آذار 2011، أمام جامع خالد ابن الوليد، حيث خرج في ذاك اليوم عشرات المتظاهرين لم يتجاوز عددهم المائة، وكانت أول مظاهرة في حمص، والفخر لم يفارقني لحظة لأني كنت ممن شارك بها.
لم تستمر تلك المظاهرة أكثر من 15 دقيقة، حيث هاجم الأمن المتظاهرين واعتقل عدداً من الشبان الذين شاركوا بها، ورغم الرعب الذي كنا نشعر به ونحن نردد ذلك الهتاف الخالد، إلا أننا عرفنا في تلك اللحظات معنى الحرية وعمق الرعب معاً، خوفاً من بطش النظام واعتقاله لنا.
لا يغيب عن خاطري وجه الشاب الشهيد عبد الرحمن أورفلي، الذي اعتقل يومذاك، والخوف الذي رافقنا نحن أصدقائه، بعد اعتقاله، لأنه كان يعرف أغلب المتظاهرين، فقلنا في أنفسنا يومها أننا سوف نُعتقل لا محالة، ومرت أيام وأيام ولم يبح الشهيد بأسماء أحد ممن يعرفهم من المتظاهرين، ويوماً إثر يوم كانت الشجاعة تزداد في قلوبنا للخروج في مظاهرة جديدة.
كنا ننتظر يوم الجمعة بفارغ الصبر للخروج من جامع خالد ابن الوليد كونه المحطة الوحيدة للتجمع، لنصور بكاميرات “هواتفنا النوكيا” التي لم تكن تمتاز بدقة تصوير عالية، ولم يكن هدفنا دقة الفيديو بل إيصال الصورة والصوت بأية طريقة.
كان مشهد تجمعات الأمن وما يسمى “وحدة مكافحة الإرهاب” في جانب الجامع مرعباً للغاية، يكفيك النظر إلى عيونهم لتتيقن أنهم مستعدون لقتل كل الحاضرين، ولكن ذلك لم ينل من عزيمتنا آنذاك، بل زادنا إصراراً على التحدي.
لا زلت أذكر تفاصيل تلك المظاهرة التي انطلقت في يوم 25 آذار من العام 2011 بعد صلاة الجمعة تنادي فقط “حرية حرية .. الله سوريا حرية وبس”.
أكثر من ألفي متظاهر انطلقوا من أمام جامع “الدروبي” وجامع “الدالاتي” باتجاه الساعة الجديدة وهتافاتنا تهز حمص، أما الأمن فقد تجمع في مداخل ومخارج الساحة بجانب الساعة الجديدة.
بعيد تجمعنا بوقت قصير جاء إلينا أحد القياديين في حزب البعث بهدف تهدئة الأمور، وسأل المتظاهرين عن مطالبهم، كانت المطالب باقة متنوعة من حاجات السوريين، تبدأ بمكافحة الفساد، ولا تنتهي…
أبرز مطالب المتظاهرين كانت تتمثل في محاسبة محافظ حمص إياد غزال وإقالته، وإيقاف قتل المتظاهرين في درعا. وكعادة مسؤولي نظام الأسد.. وعد القيادي الحزبي المتظاهرين بتلبية مطالبهم وقال: “سيادة الرئيس حكى مع القيادة وقلهم رح يشيل المحافظ”.
بالتزامن مع أكاذيب القيادي البعثي كنا نسمع أصوات مسيرة مؤيدة لنظام الأسد تقترب من ساحة الساعة حيث نتجمع، وهم يرفعون صور بشار الأسد ويهتفون: “الله .. سوريا .. بشار وبس”، ورغم استخدامهم مكبرات الصوت إلا أن هتافاتهم لم تستطع التغطية على هتافات المتظاهرين، كان صوت الحق أقوى، ما دفع عناصر الأمن إلى إطلاق قنابل الغاز المسيلة للدموع لتفريق الناس، ولا يغيب عن بالي في ذاك الوقت أول جملة رددها المتظاهرون مع أول قنبلة مسيلة للدموع، كانت شتيمة قاسية تعكس عمق وعي الناس بالسبب الجوهري لرداءة نظامهم، هتف الكثيرون بتلك الشتيمة بينما كنت مصدوماً من وضوحها: “يلعن أختك يا بشار”.
مع تعالي أصوات المتظاهرين بتلك الشتيمة تعالت أصوات رشقات الرصاص العشوائي من قبل عناصر الأمن، ومع أصوات الرصاص انطلقت الحناجر بهتافات جذرية واضح الدلالة: “الشعب يريد اسقاط النظام”، و”يا درعا نحنا معاكي للموت”، وتكسرت مع الصوت الهادر لهتافات المتظاهرين جميع حواجز الخوف الذي سيطر علينا طوال السنوات الماضية.
بدأ الاشتباك بيننا وبين عناصر المخابرات بالحجارة وبالقنابل المسيلة للدموع، وأجبرنا بعدها على الخروج من الساحة باتجاه مخارجها، وكنت مع المجموعة التي توجهت باتجاه شارع عبد المنعم رياض إلى جانب نادي الضباط، وهناك حدث ما لم يكن ببال أحد، شاب من المتظاهرين يعتلي سور نادي الضباط ويبدأ بتمزيق صورة كبيرة مرفوعة فوق باب نادي الضباط تحمل رسم بشار الأسد مع والده المجرم حافظ، حينها جنّ جنون قوات الأمن وبدأوا بإطلاق الرصاص عشوائياً على المتظاهرين، لتسقط مع رشقات الرصاص أولى قطرات الدم من عدد من المتظاهرين، وقتل برصاصة طائشة أحد عناصر الحراسة في نادي الضباط.. ومنذ ذلك اليوم المشهود بدأت الثورة في حمص فعلياً.. وصارت حمص قبلة الثوار.
يتبع…
Sorry Comments are closed