استطاع الجيش التركي والقوات المتحالفة معه بسط سيطرتهم على الحدود التركية مع عفرين. وقد حقق هذا الهجوم تقدماً بطيئاً لكنه مطرد، مانعاً أي تدخل خارجي أو قرار سياسي لوقف الهجوم، وبات من المؤكد تقريباً أنه سيحقق هدفه بإلغاء سيطرة وحدات الحماية الشعبية الكردية (YPG) في عفرين.
ومع ذلك فإن عملية غصن الزيتون ليست مهمة لأنقرة فقط، حيث أنها تنطوي على تداعيات سياسية على الأطراف الخارجية الأخرى المشاركة في الحرب الأهلية السورية. ففي واشنطن، ترتكز المناقشات حول سياسة الولايات المتحدة في سوريا على أسئلة حول الاستراتيجية، وفيما إذا كانت الولايات المتحدة تستطيع ترجمة مكاسبها العسكرية ضد تنظيم الدولة الإسلامية إلى تسوية سلمية دائمة بشروط تخدم المصالح الأمريكية. ومع ذلك، فإن هذه المناقشات تميل إلى نسب التماسك الاستراتيجي مع خصوم واشنطن.
وفي الواقع إن تدخل تركيا عبر الحدود يدل على أن الأطراف الخارجية الرئيسية للحرب غير قادرة على تحقيق أهدافها الخاصة دون أن تقدم تنازلات صعبة.
بهجة تركية:
إن سياسة الولايات المتحدة في سوريا، التي ورثها الرئيس دونالد ترامب عن سلفه، مُعدّة في الأصل كحملة محدودة لمكافحة الإرهاب والإطاحة بتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” من الأراضي التي تسيطر عليها شرق سوريا. وذلك يتطلب من واشنطن التحالف مع مليشيا قوات سوريا الديمقراطية (SDF). وفي أثناء قيامها بذلك، همّشت واشنطن حليفتها في الناتو (تركيا).
وبعد أن تمكّنت الولايات المتحدة وحليفتها (قوات سوريا الديمقراطية) من هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، ارتكزت الاستراتيجية الأمريكية على سياسة استخدام الأراضي التي تسيطر عليها كنفوذ لمحاولة إجبار النظام السوري على تقديم تنازلات في محادثات الأمم المتحدة للسلام في جنيف. وقد حاولت واشنطن أن توحّد حملتها العسكرية مع أهداف سياسية قابلة للتحقيق، لكنها في هذا الصدد أشارت إلى أنها تعتزم البقاء في شمال شرق سوريا في المستقبل المنظور. وذلك يتناقض مع مواقف إيران وتركيا وروسيا ونظام الأسد، التي اضطرت إلى تحالفات متداخلة وأحياناً متناقضة.
بالنسبة لتركيا، إن الوجود الأمريكي في سوريا يؤكد نية واشنطن في الاستمرار بتدريب وتسليح مليشيا قوات سوريا الديمقراطية، والأهم من ذلك أن الجهود التي يقودها الأكراد لإنشاء كيان حكم ذاتي في سوريا (التي تراها أنقرة كتهديد لأمنها القومي) لن تكون خاضعة لاتفاق أوسع يركز السلطة في دمشق. وفي سبيل الضغط على الولايات المتحدة وإضعاف الأكراد، قامت هجومين عسكريين في سوريا (عملية درع الفرات في آب/أغسطس 2016، وعملية غصن الزيتون في كانون الثاني/يناير 2018).
وكانت تركيا قد طلبت إذن روسيا باستخدام القوة العسكرية في كلا الهجومين، خشية أن تتسبب في تصعيد غير مقصود مع قوة عظمى. وبعد فترة من الصراع عقب نوفمبر / تشرين الثاني 2015، تعمقت العلاقة بين الرئيسين رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين، عندما أسقطت تركيا مفجر روسي لاختراقها مجالها الجوي. وتزامن تقاربهما مع قرار تركيا باستخدام القوة العسكرية في سوريا، ويتحدث الرئيسان هاتفياً بشكل روتيني لخفض التوترات وتنسيق جهودهما في محاولة إدارة الحرب الأهلية السورية.
وقد اختارت كل من روسيا وتركيا العمل مع إيران على مبادرتين متصلتين. الأولى محادثات أستانا، وهي آلية دبلوماسية ثلاثية للإشراف على سلسلة من وقف إطلاق النار وما يسمى مناطق خفض التصعيد، والثانية هي محادثات السلام التي عُقدت مؤخراً في سوتشي، بهدف بدء المفاوضات لإنهاء الحرب ووضع مسودة الدستور. كانت عملية سوتشي مليئة بالتناقضات، وتم مطالبة روسيا في نهاية المطاف بالتنازل لتركيا حول عدد من القضايا.
إن العطاء الدبلوماسي التركي الروسي هو أمر مفيد ويساعد على شرح الديناميات في عفرين. وبشكل عام، تتوقف التسوية التركية الروسية على التعاون في إدلب، آخر مناطق خفض التصعيد المقررة في أستانا. ومن المتوقع أن ينشر الجيش التركي في 12 موقعاً في إدلب لرصد وقف إطلاق النار المفترض بين نظام الأسد وجماعات المعارضة المدعومة من تركيا. وبالتالي، تجد أنقرة أنفسها قد تدخلت عسكرياً بشكل مباشر وأكثر عمقاً في سوريا. وعلى الرغم من أن هذه المشاركة لها أهداف محدودة وقصيرة الأمد، إلا أنها قد تصبح عرضة للانفتاح في غياب سلام تفاوضي بين النظام والمعارضة.
وتسعى موسكو، بدورها، إلى العمل مع أنقرة لتحقيق تسوية سلمية، لكنها في سبيل تحقيق ذلك تغفل مصلحة حليفين آخرين هما طهران ودمشق. ويبدو أن كلاً من إيران والنظام السوري عازمان على إرغام القوات التركية في نهاية المطاف على الانسحاب من سوريا، حيث يهدد استمرار وجودها بتقويض هدف الأسد في هزيمة المعارضة وإعادة تأكيد السيطرة الإقليمية الكاملة. وعلى ما يبدو فقد كانت روسيا ضد تحركات النظام في عفرين، وبالتأكيد على خلاف مع حلفائها على استهداف القوات التركية المنتشرة في إدلب، وفقاً لشروط اتفاق التصعيد التي خرجت عن محادثات أستانا.
ويشكّل الانتشار العسكري التركي في سوريا جزءً من جهود روسيا لتسوية النزاع وفق شروطها الخاصة. وبالتالي، فإن أنقرة تحتفظ ببعض التأثير على روسيا، وذلك على الرغم من أنها الطرف الأضعف بينهما. وتعد جهود تركيا المناهضة لمليشيا وحدات حماية الشعب مصدر إزعاج لروسيا، التي تسعى جاهدة للحفاظ على علاقات ودية مع الأكراد، ولكن بوتين لا يرغب أن يخاطر بفقدان الدعم التركي لجهوده الرئيسية لإنهاء الحرب. وكميزة إضافية، فإن الحملة التركية ضد الأكراد قد أفضت إلى اضطرابات في علاقتها مع الولايات المتحدة.
ولكن بالنسبة لدمشق وطهران على حد سواء، فإن توتر العلاقات الأمريكية التركية أقل أهمية من التهديد المباشر الذي يشكله الوجود العسكري التركي المفتوح. وفي الوقت نفسه، لا تظهر أنقرة أي علامات على الامتثال للضغط الخارجي لسحب قواتها.
التخبّط:
تجد كل من إيران وروسيا وسوريا وتركيا نفسها تعمل بالتناوب معاً وعلى أهداف متداخلة. وسيكون من الحكمة أن نعترف بأن أهدافها قد يكون من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً، تحقيقها بالكامل. إن حملة أنقرة العسكرية مدفوعة بالمخاوف من الانفصالية الكردية والصلة الواضحة بين الطموحات السياسية للأكراد السوريين والأتراك. ومع ذلك، فإن التحدي الأوسع الذي يشكّله حزب العمال الكردستاني لن يُحل في ساحة المعركة بل بتنازلات سياسية. حيث أن التدخل العسكري في عفرين يثير المشاعر المناهضة للحكومة في جنوب شرق تركيا الكردي، مما يبقي على دائرة العنف التي تدعم التمرد في حزب العمال الكردستاني. وبدورها تعتمد روسيا الآن على أنقرة لضمان جزءً من المعارضة ستوافق في المستقبل على اتفاقية سلام. ولكن التوصّل لمثل هذا الاتفاق يوجب على روسيا كسب دعم إيران ونظام الأسد، اللذان يعارضان وجود أنقرة في سوريا.
وأخيراً، فإن وجود الولايات المتحدة في شمال شرق سوريا، فضلاً عن تحالفها مع قوات سوريا الديمقراطية، يشير إلى أن الجهود التركية الرامية لهزيمة مليشيا وحدات حماية الشعب ستظل غير مكتملة في أحسن الأحوال. وبالنسبة لروسيا على وجه الخصوص، فإن السؤال الأبرز هو كيفية مواءمة أهدافها السياسية مع الحملة العسكرية الجارية. حيث أن الجيش الروسي يقاتل في سوريا منذ ما يقارب الثلاث سنوات، ولا تزال موسكو غير قادرة على إنهاء الحرب الأهلية بالقوة.
وستتطلب جهودها الدبلوماسية إجراء توازن معقد بين الحلفاء المتعادين والشركاء. ويقلل الانقسام الداخلي بين هذه الجهات الأربعة من الضغط على الولايات المتحدة. ولكن يجب على واشنطن أيضاً أن تواصل موازنة أهدافها القصيرة الأجل لمكافحة الإرهاب بجهدها الطويل الأمد لإصلاح العلاقات مع تركيا. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الولايات المتحدة لم تتفق بعد مع احتمال أن يسيطر نظام الأسد على مساحات واسعة من البلاد على الرغم من المكاسب الأمريكية في شمال شرق البلاد.
إن كل طرف من الأطراف الفاعلة الخارجية في الحرب بسوريا يُعتبر على أنه لا يُشكّل ثقلاً هاماً، ويتم التعامل معه لتشكيل توازن استراتيجي مع خصومه (الذين قد لا يكونون موجودين)، ويتم استخدام السوريون للقتال ويموتون من أجل مصالح وطنية تتعارض مع أي خطوة تهدف لتهدئة الصراع. وقد كشف التدخل التركي في عفرين عن توترات داخل تحالف هش من الدول المعادية للوجود الأمريكي في شمال شرق البلاد.
وقد أخفقت الولايات المتحدة أيضا في التعامل بجدية مع الواقع على أرض الواقع والتفكير من خلال التسويات التي يتعين اتخاذها للمساعدة في إنهاء هذه الحرب. وبغض النظر عن بعض التغييرات الخطيرة، من المرجح أن تستمر الحرب في سوريا وتقتل المزيد والمزيد من الناس.
Sorry Comments are closed