ليس جديداً التذكير بالنظرية الشهيرة التي اعتمدتها الولايات المتحدة وإسرائيل، على نحو متطابق أحياناً، في تبرير مواقف الحفاظ على نظام «الحركة التصحيحية» إجمالاً، الأسد الأب أسوة بوريثه الابن؛ وكذلك، استطراداً، في قراءة الانتفاضة الشعبية ضدّ هذا النظام، ربما منذ الساعات الأولى لانطلاق تظاهرات الاحتجاج السلمية. تلك النظرية كانت تقول، ضمن المنطق الذرائعي الشهير، إنّ الشيطان الذي نعرف لتوّنا (آل الأسد، حسب سجلات حروب 1972 و1982 والمخيمات الفلسطينية و»عاصفة الصحراء»)، خير من أيّ شيطان بديل لا نعرفه (كائناً مَن كان، ليبرالياً أم إسلامياً أم ديمقراطياً أم…).
ومؤخراً، بدأت واشنطن وتل أبيب تسدد أثمان تلك النظرية، التي لم تتبدل عناصرها الكبرى مع ذلك، خاصة ثنائية الحفاظ على النظام والإشراف على إنهاكه في آن معاً؛ وإنْ أخذت تدخل عليها عوامل تشويش ليست عابرة، وبعضها قد يتصف بأبعاد ستراتيجية عميقة. ثمة هنا ثلاثة مشاريع، إيراني وروسي وتركي، قابلة للتعيش معاً رغم تناقضاتها التكوينية، وقادرة على تعكير صفو النظرية الأمريكية ـ الإسرائيلية. ومنذ قرار واشنطن قصف قوات النظام شرق الفرات (مع معرفة وجود أعداد كبيرة من مرتزقة «فاغنر» الروس)؛ وقرار تل أبيب قصف القواعد الإيرانية، على الأرض السورية، التي انطلقت منها طائرة «الفينيق» الإيرانية المسيّرة؛ لم تتغير قواعد الاشتباك، كما بات يُشار على نطاق واسع في التغطيات الصحفية والتحليلات العسكرية، فحسب؛ بل توجّب أن تتعدّل ركائز النظرية ذاتها.
ذلك لأنّ «الشيطان» الذي عرفوه لم يعد يدعى آل الأسد فقط، بل لعلّ هؤلاء قُذفوا إلى الصفوف الخلفية من ميدان الاشتباك، وثمة اليوم أسماء مثل حسن نصر الله وقاسم سليماني وأبو مهدي المهندس وأكرم الكعبي؛ وأسماء أقلّ شأناً ولكن ليس أقلّ حضوراً مثل آل جابر، محمد وأيمن وإبراهيم، قادة ميليشيات «صقور الصحراء» و»مغاوير البحر» الذين يتمتعون بدعم لوجستي وعسكري روسي في منطقة الساحل. وثمة، إلى هذا وذاك، خضوع «الشيطان» إياه، شاء أم أبى، إلى مقتضيات اختلاف المشاريع أو ائتلافها، على أرض باتت اختزال صورة الصراعات الجيو ـ ستراتيجية الكونية الأسخن بلا منازع.
ولأنّ الطائرات تساقطت من جنسيات أربع، روسية وتركية وإيرانية وإسرائيلية، خلال أيام قلائل، هنا وهناك في سماء سوريا وعلى أرضها؛ فإنّ ما يتغير جوهرياً لم يعد مقتصراً على قواعد الاشتباك أو الخطوط الحمر، بل بات يتوخى تفادي انفلات تلك القواعد والخطوط إلى مستويات يصعب ضبطها، كأنْ تنقلب إلى حروب مصغّرة، صانعة لحروب أكبر. واضح، مثلاً، أنّ الضربات الإسرائيلية التي استهدفت الدفاعات الجوية للنظام السوري، بعد إسقاط الطائرة، لم تكن لها سابقة أشدّ في النطاق والنوعية إلا سنة 1982، خلال الغزو الإسرائيلي للبنان. واضح، في المقابل، أنّ سكوت طهران والنظام السوري وقاعدة حميميم الروسية، ثمّ الاتصال الهاتفي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو؛ كان سلوكاً يتوسل التهدئة، وليس التصعيد.
الاعتبار الجوهري الأهمّ، في نظر القطاعات الأوسع من أبناء الشعب السوري، يتمثل في أنّ نظام «الحركة التصحيحية»، هذا «الشيطان» الذي حظي في الماضي برعاية إسرائيل وأمريكا وروسيا وإيران وتركيا، على حدّ سواء؛ هو المسؤول الأوّل عن خرائب الاحتلالات والمشاريع الراهنة، التي ترسف سوريا في أغلالها. وما يُنتهك يومياً إنما هو إرادة البلد واستقلاله وكرامته الوطنية، وما يُقصف ويُدمّر هو منشآت سدد السوريون أثمانها قسراً، طيلة عقود من حكم استبداد وفساد ونهب و»ممانعة» زائفة، على حساب حقوقهم في التنمية والتعليم والصحة والبنية التحتية السوية.
وليس أقلّ دلالة، ومضاضة ومأساوية، أنّ الطيران الحربي الإسرائيلي والأمريكي والروسي والتركي يواصل قصف أبناء سوريا، كلٌّ حسب ما يقتضيه مشروعه في البلد؛ وأنّ «الشيطان» دون سواه شريك غير صامت أبداً، ولكنّ ضدّ أبناء الشعب السوري، أولاً وأخيراً وحصرياً.
عذراً التعليقات مغلقة