* صلاح بوسريف
فِي مَنْأًى عن كُلِّ شَيْء، يبقى الشِّعرُ، الخِطاب الأكْثر قُدْرَةً على إحْراجِ اللُّغَةِ والفِكْر معاً. فالشَّاعِرُ، حين يضَعُ يَدَهُ في اللُّغَة، فهو يَخْرُجُ بها، ليس من العامِّ والمُشْتَرَكِ فقط، بل يَخْرُجُ بها حتَّى من الأساليبِ والصُّوَرِ الشِّعرية، التي باتَتْ مُبْتَذَلَةً، أو مَطْرُوحَةً في طريق الشِّعر نفسِه، يعرفها الشَّاعِر وغير الشَّاعر، مثلما نَجِدُ في كثير مِمَّا نعْتَبِرُهُ «قَصيدةَ نثرٍ»، أو مِمَّا نَجِدُه عند بعض الذين يعتبِرُون الوَزْنَ هو الشِّعْر، من دون أن يَخْرُجُوا من قَدِيمِ هذا الوَزْنِ، في تراكيبِه وصُوَرِه، وفي طبيعة الخَيالاتِ التي يذهَبُون إليها. ففي الحالَتَيْنِ، تَصيرُ الاستعارات مَيِّتَةً، لا ابْتِكار، ولا اخْتِرَاعَ فيها، وهو ما ينعكس، حَتْماً على الفِكْر، أو على ما نَعْتَقِدُ أنَّه فكر، بالمعنى الذي يجعلُ من الفِكْر، الأُفُقَ الذي به يُؤَسِّسُ الشَّاعِرُ الوُجُودَ، أو يُعِيدُ صياغَةَ مَعانِيهِ، من مَنْظُورٍ شِعْرِيّ صِرْفٍ، لا علاقَةَ له بِما يجري خارِجَ النَّص، أو الخِطاب.
فَـ «ماهِيَةُ اللُّغَةِ»، كما يقول هايدغر، «لاَ تُسْتَنْفَد كُلُّها في كَوْنِها، [فقط]، وسيلة للفَهْم»، بل إنَّ اللُّغَة، تَعْمَل في سِياقاتٍ شِعْرِيَةٍ، أو في أراضٍ، الشَّاعِرُ هو مَنْ يعرف تُخُومَها، ويَسْتشْعِرُ حُدُودَ العَطَبِ والخَطَرِ فيها. كما يعرف، أنَّ نِداءاتِ الشِّعْر، تَكُون مُباغِتَةً، وصَاعِقَةً، بقدر ما تَكُونُ كَاشِفَةً لِعَراء الكَائِنِ وانْكِشافِهِ، ولِفَداحَة الوُجودِ الذِي هُوَ مُلْقًى فيه. واللُّغَةُ، حين تَلِجُ يَدَ الشَّاعِر، أو تَلِجُها يَدُ الشَّاعِر، فهي تَحْرِصُ عَلَى خَلْقِ العالَم، في ما هي تعَمَل على خَلْقِ الأشياء. فالإنْسانُ لا يَمْلِكُ اللُّغَةَ، وهيَ لَيْسَتْ مُتاحَةً لَهُ، كما أنَّها لَيْسَتْ مُمْكِنَةً، إلاَّ في حالَةِ الانْكِتابِ الشِّعريّ، الذي ليس هو كُلّ الشِّعر، الذي تَفِيض عنه اللُّغَة، وتكونُ هي النَّصّ، وليس النَّصّ هو اللُّغَة، أي أن تكون اللُّغَة مُجرَّدَ «أداة» لا أكثر.
بالعَوْدَة إلى هايدغر «فاللُّغَةُ لَيْسَت مُجرَّد أداةٍ يملكُها الإنْسانُ إلى جانبِ غيرها مِنَ الأدواتِ، وإنَّما اللُّغَة هي بوجه عامّ وقبل كل شيء، ما يَضْمَنُ إمْكانَ الوجُودِ وَسَطَ موجودٍ ينبغِي أن يَكُونَ مَوْجُوداً مُنْكشِفاً، وهُناك فحسب حيثُ توجَدُ لُغَة، يوجَدُ عالَم».
حين نُدْرِك المعنَى الأنطولوجي، البعِيد، لِوُجُودِ العَالَم بوجُودِ اللُّغَةِ، سَنَفْهَمُ، معنى أنْ يكونُ الشِّعّرُ فِكراً أو فَلْسَفَةً، ومعنى أن يكون الفِكْرُ، أو الفَلْسَفَة نفسُها، هي الشِّعْرُ، خالِياً من أثْوابِه التي نُضْفِيها عليه، في ما هُو يأتينا، عارِياً، أو مُنْكَشِفاً، باعتباره موجوداً، هو وَحْدَهُ ما يضمن إمْكانَ الوُجود.
ليس الشِّعْر، بهذا المعْنَى هو معرفةَ المُفْرداتِ، واسْتِشارةَ المعاجم، أو التَّقْديم والتأخير، واللَّعِب بالأوزان، والمَجازَاتِ، والصُّوَر، أو اسْتخدام النثر لِتَخْفِيف الشِّعر، أو للكتابة من خارج بلاغةِ المَاضِينَ، فالشِّعْر، هو التَّمَكُّن من هذا المُنْكَشِف، بِلُغَةٍ، هي اخْتِلاقٌ، واخْتِراعٌ في النَّصِّ، الذي هو العَالَم، في جوهرِه، وفي حقيقتِه الشِّعْرِيَيْن.
اعْتَقَدْنا، دائِماً، أو هَكذا ذَهَبْنا إلى الشِّعْرِ، من خلالِ ما تُكَرِّسُهُ المدرسَة من وَعْيٍ مَغْلُوطٍ بالشِّعْر، إنَّ الشِّعْرَ يَجْرِي خارِجَ الفِكْرِ، وخارِجَ الفَلْسَفَةِ أو التَّفَلْسُف، واكْتَفَيْنا باخْتِزال الشِّعْر، في «القصيدة»، التي لَيْسَتْ هي الشِّعْر، في كَثْرَتِه وتَنوُّعِه، ما جَعَل من الوزنَ والقافية، زائِد المعنَى، هي الشِّعْر، ثَمَّةَ من أضافَ «القَصْدَ»، لِيُبْعِدَ ما في القرآنِ من كلامٍ مَوْزُونٍ عن الشِّعْر، لأنَّه بالنِّسْبَة للباقلاني، صاحب «إعجاز القرآن»، لَمْ يَكُنْ مَقْصُوداً، بل جاءَ في سياقِ ما تُمْلِيه اللُّغَة، في سياقِها الشِّعْرِيّ، من إيقاعٍ، أو نَغَمٍ، هو جوْهَر العربِيَة، التي هي لُغَة شاعِرَةٌ في أصْلِها.
جَرَّدْنا الشِّعْر من وَعْيِه الفلسَفِيّ، أو من علاقَتِهِ بالفَلْسَفَة، ونَظَرْنا إليه خالِياً من هذا المعنى، وهذا ما كانتْ «القصيدة» تَحْرِصُ على تَثْبِيتِه، بحَصْر المَعانِي في الشِّعْر، من خلال الأغْراضِ الكُبْرَى، التي كانتْ هي ذلك المعْنَى الذي عَمِلَ الشَّعرِاء العرب على اعْتِبارِه أحَد أُسُسِ بناء «القصيدة».
العلاقَةُ بين الشِّعْر والفلسفةِ، وفق هذا السِّياق، هي علاقَةٌ أنطولوجِيَة، لأنَّ الشِّعْرَ، منذُ وُجِدَ، كان تَفَلْسُفاً، وكان قَلَقاً، ومُساءَلَةً للوُجُودِ، لِما كان يَطْرَأُ على هذا الوُجُود من أمُورٍ لا جَوابَ لَها، أو هي مِمَّا يُزْعِجُ الكَائِنَ، ويَحُتُّه على تَرْمِيمِ ما بَدَا من شُقُوقٍ وتَصَدُّعاتٍ في كَيْنُونَتِه، أو بِصيغَةٍ أخْرَى، في وُجُودِه المُفْعَمِ بالقَلَقِ والتَّوتُّر، في صُورَتَيْهِ الفيزِيقِيَّة، أو الميِتافِيزيقِيَّة. فجلجامش، حِينَ فَقَدَ صَدِيقَهُ أنْكِيدُو الذي رآهُ يتحلَّل أمامَهُ، ويتلاشَى، أدْرَكَ أنَّ القُوَّةَ، أو السُّلْطَةَ لا تَضْمَنُ الخُلُودَ، وأنَّ الإنْسانَ لَيْسَ هو الآلِهَة، ولا هُوَ صَاحِبُ «بَيْتِ القَصَبِ»، الَّذي نَجا من الطُّوفانِ، وضَمِنَتِ الآلِهَةُ لَهُ الخُلُودَ على «أرْضِ دَلْمونَ». سيُؤَرِّقُ سؤالُ الوُجُودِ والعَدَم جَلْجامَشَ، الذي اكْتَشَفَ، حين سَرَقَتْ منه الحَيَّةُ نَبْتَةَ الخُلُودِ، أنَّ الجِسْمَ يَفْنَى، لَكِنَّ الاسْمَ يَبْقَى، ويَسْتَمِرّ في الوُجودِ. فملحمةُ جلجامش، هي نَصٌّ شِعْرِيّ بامتيازٍ، ما يَعْنِي أنَّ كتابَتَه، هي تَعْبِيرٌ عن الوُجُودِ بالشِّعْر، الذي، رُبَّما، كانَ بمثابَةِ التِّرْياقِ الذي حَلَّ جُزْئِياً بعض ما ألَمَّ بجلجامش من قَلَقٍ، ورُعْبٍ من الفَناءِ، أو العَدَمِ.
الشِّعْرُ، منذُ هذه اللَّحْظَةِ، صارَ إمْكاناً لِلْوُجُودِ، في سياقِه الفَلْسَفِيّ العَمِيق، لا في سياقِ النَّظَرِ إلى الشِّعْر، بحَصْرِهِ في الوزن والقافِيَة، أو في النَّظْمِ، ما يَشِي بتَخلُّفِ أفُقِ الرُّؤْيَةِ بهذا المعنى، وانْحِسارِه في القِشَر، من دُون النُّزُولِ إلى عُمْقِ العلاقَةِ العِمِيقَة بَين الشِّعْرِ والفِكْرِ، أو الشِّعْرِ والفَلْسَفَةِ، رَغْم ما بَيْنَ هذيْنِ المَفْهُومَيْنِ من قَلَقٍ، لا يُمْكِنُ تَفادِيَهُ.
* نقلاً عن القدس العربي
* صلاح بوسريف: كاتب مغربي
عذراً التعليقات مغلقة