* نصير شمه
من خلال عملي على بحث موسيقي أكاديمي، ومع فقر المكتبة العربية بالكتب التي تدرس الموسيقى دراسة علمية، كنت أقرأ أعدادا كثيرة من الكتب والمراجع الموسيقية، ومع أن تاريخ العرب كان غنيا بالدراسات التي تتعلق بالفنون والموسيقى تحديدا، ويكفي أن نذكر كتاب «الموسيقى الكبير» للمعلم الفارابي، أو مخطوطاته التي وضعها ولم يتم تحقيقها حتى الآن، إما بسبب توزعها في مكتبات عالمية ككتابه حول «العود المثمن» الذي أسست عليه العود ثماني الأوتار، أو غيرها من المخطوطات التي من الممكن أنها لم تكتشف حتى الآن، أو ظلت حبيسة رف كتب قديمة في أحد البيوتات العريقة، كما يحدث مع كثير من المخطوطات، مع كل هذا، فإن الكتب التي تناولت الموسيقى حديثا جاءت في أغلبها إما محاولات تسجيلية لتقديم حياة بعض المطربات والمطربين، أو الموسيقيين والملحنين.
عندما انتبهت لفقر الكتب التي تتناول النظريات الموسيقية الحديثة، بدأت بمراجعة كتب اللغة وكتب النقد الأدبي وما يتعلق منها بالدراسات الصوتية أو غير ذلك، انتبهت حينها، إلى أن الكثير من الدراسات والنظريات الأدبية الشعرية غالبا والصوتية واللغوية كذلك من الممكن تطبيق بعض جوانبها في إنتاج مدرسة نقدية موسيقية منهجية.
وكما هو متعارف عليه فإن الصوت هو نفسه بطريقة ما موسيقى، فنحن نتعرف على الآخر عندما يهاتفنا من نبرة صوته ووقعها الموسيقي في أذننا، كما أن اللغات المختلفة التي تحفل بها الكرة الأرضيّة تشكل على اختلافها موسيقات من أنواع وطبقات مختلفة، ولعل أغلبنا إن لم يكن كلنا نتفق على أن اللغة الإيطالية، على سبيل المثال، لغة موسيقية بامتياز، فمخارجها اللفظية وطريقة نطقها كلها تشي بالموسيقى، وسرعان ما تميزها الأذن عن غيرها من اللغات بمجرد سماعها حتى مع عدم الدراية بأساسيات اللغة. علماً بأن كل المصطلحات الموسيقية المتداولة في عالم الموسيقى باللغة الإيطالية.
في النقد الأدبي حفلت المكتبة النقدية بكتب متنوعة قديمة وحديثة، وإن تكاسل النقد الأدبي العربي حديثا في إنتاج النظريات الأدبية والمناهج النقدية فإنه أيضا سد هذا الفراغ بالكم الكبير من الترجمات النقدية من دول العالم المتقدمة في هذا المضمار، خصوصا عن الإنكليزية والفرنسية، على عكس ما حدث مع الموسيقى، فلم نجد عناية حقيقية بسد الفراغ الحاصل من قلة الدراسات النقدية الموسيقية، وترك الدارس الموسيقي الأكاديمي لمحاولاته الصعبة في وضع نظريات، أو تكملة طريق بدأه باحث آخر سواه، وما أن ينتهي الدارس من دراسته فإن مخطوط تخرجه وبحثه غالبا ما يبقى في أرشيف الجامعة، حيث لا يجد اهتماما حقيقيا من دور النشر لتحويل جهده إلى كتاب مطبوع.
هذه الأزمة في الكتب العلمية الموسيقية لا ترتبط بالأكاديميين الموسيقيين وحدهم، فهي سلسلة طويلة لا تنتهي من مشاركين في هذا التقصير، الذي أسميه «جمعيا»، فليس هناك دار نشر واحدة تحاول البحث بجدية عن هذه المخطوطات لطباعتها، وليس هناك لباحث لا يمتلك عدة لغوية ممتازة تجعله قارئا جيدا لنظريات الموسيقى في لغات أخرى، قدرة على قراءة هذه الكتب لا بلغتها الأم فقط، بل أيضا مترجمة، وليس هناك اهتمام حقيقي ببناء مكتبة موسيقية علمية.
باختصار، فإن الباحث الموسيقي سيجد نفسه ملزما على مراجعة النظريات الأدبية التي تحمل في جانب منها دراسات صوتية. ليس الصوت الذي اكتشف الإنسان قدرته على التعبير عن نفسه من خلاله مجرد تعبيرات لفظية تتألف من حروف، فما قبل اللغة كان الإنسان يعبر بإطلاق أصوات «موسيقية» مختلفة للتعبير عن نفسه أو عن حالته أو مطلبه، وكان غالبا شكل التعبير يتخذ طبقات معينة من الصوت، أو تلوينات مختلفة قد تكون التأسيس الأول للكون في بناء السلالم الموسيقية ودرجاتها. اهتمامي الأول بالموسيقى كمستمع كان انتباهي الشديد للأصوات التي تنتج أسلوبها الخاص في الصوت، الذي نتعرف على مصدره بمجرد سماعه، فالماء وهو يتموج أو يثور أو يهدأ ينتج أصواتا تدل على حالته، كما أن الماء الخارج من صنبور المياه يعبر عن صوته بطريقة مختلفة، ومجرد سماعنا له سننتبه إلى أن الصنبور مفتوح على آخره، أو انه ينقط نقطة وراء نقطة، كذلك الشجر وحفيفه وغير ذلك من الأصوات. كانت كل هذه الأصوات دليلي الموسيقي الأول، ومعها كانت الموسيقى التي أسمعها من الراديو، أو عن طريق الأسطوانات. الصوت موسيقى، والدراسات الصوتية تحمل في جانب منها القالب الموسيقي الضروري لأي باحث. وللذهن أو الذاكرة قدرة على تذكر الموسيقى أكثر من قدرته على تذكر الكلمات اللفظية، ولهذا كان حفظ القرآن الكريم يتم عن طريق التجويد، ولهذا أيضا تحفظ الأدعية غالبا عن طريق الصوتيات، وكذلك الترتيل في الكنائس. اللغة قالب موسيقي لفظي، وقد انتبهت أيضا إلى أن اللغات قامت على أساس التشكيل الموسيقي للحرف، فغالبا عندما نستخدم حرف الفاء على سبيل المثال في كلمة مثل «فاه، شفة، فجوة، فارق، فجر، الخ» فنحن نحكي عن انفراج بطريقة ما، فالشفة تشكل فجوة او انفراجا بينها وبين اختها الشفة الأخرى، والفجر يعلن عن فارق بين الليل والنهار، وكل هذه التعابير اللفظية تدور في رحى حرف الفاء، الذي يحمل دلالة موسيقية، فالفاء تقع في منتصف السلم الموسيقي وتشكل بداية الارتقاء الصوتي، أو الارتفاع بالسلم الموسيقي، أي فارقا بين «المهموس» ليس بالتعبير الفعلي وبين العالي.
ختام القول، إن الصوت هو التعبير الأول للإنسان نحو الموسيقى الذي تعلمه من الأصـــــوات المحيطة ومن العصافير ومن الشجر حتى من اصطفاق الحجر بالحجر الذي ولدت منه النار.
* نقلاً عن “القدس العربي”
عذراً التعليقات مغلقة