بعد خروجي من سوريا نهاية 2011 وفي أول ظهور إعلامي لي من القاهرة على قناة العربية؛ رغبت إدارتها استغلال الحدث والترويج له بشكل مثير باعتباري منشقاً عن النظام، وقد رفضت طلبهم بإصرار وطلبت إضافة لقب -المنضم لشباب الثورة- فقط إلى جانب اسمي.
ظهر مصطلح المنشقين عن النظام مع بدايات الثورة السورية للدلالة على إعلان أصحاب مراكز ووظائف عليا في الدولة وضباط وعسكريين تخليهم عن مناصبهم بسبب رفضهم استخدام نظام الأسد للعنف والحلّ العسكري وبراءتهم من دماء الشهداء، وساهمت وسائل الإعلام في الترويج لذلك باعتباره يؤكد ضعف النظام وانهياره من الداخل.
رفض المجند وليد القشعمي إطلاق النار على المتظاهرين في حرستا وكان أول من يعلن انشقاقه عن النظام في بداية الثورة، وتبعه بعد ذلك الكثير من عناصر الجيش والأمن والمخابرات من رتب مختلفة، وإذا كان الانشقاق يعني التخلي عن الانخراط والعمل ضمن منظومة النظام الأمنية والعسكرية إلا أنه جرى التوسع في استخدام المصطلح والمبالغة بإطلاق لقب منشق على أي موظف في الدولة وقد شمل ذلك بعض الموظفين القدامى أو حتى المسرّحين من عملهم.
عمدت القنوات التلفزيونية الداعمة للثورة إلى تضخيم حالة الانشقاق عن النظام وساهمت المعارضة الخارجية في ذلك بضم بعض الشخصيات ضمن هيئاتها من خلال تبنّي جهات معارضة ودعم دول إقليمية مع التغاضي عن الاعتبارات الثورية التي يفترض أن تكون أساس عمل المعارضة.
وباتت الألقاب والصفات تطلق على المنشقين بدون ضوابط مهنية؛ فأصبح الضابط المسرح يقدم نفسه على أنه منشقّ حديثاً وبرتبة أعلى وأما الموظف في مؤسسة إعلامية فبات يقدم نفسه إعلاميا أو صحافياً، وتوسعت الحلقة لتشمل رجال دين وفنانين ومحامين وقضاة وموظفين كبار في كافة دوائر الحكومة خرج بعضهم بدافع الخوف سواء في مناطق النظام أو حتى الثورة ومن خلال تدرج عملهم في المعارضة وصلوا لقيادتها في نهاية المطاف.
رغم اقتراح المجلس الوطني ضمّي إلى صفوفه لم يكن لدي حافز لذلك بسبب حالة التزاحم والصراع المزرية على العضوية وانعدام المؤسساتية والشفافية في عمل المجلس، وفضلت بدلاً من ذلك العمل ضمن لجان خاصة دون الاهتمام بصفة أو منصب أو حتى تعويض مادي، بهدف تقديم دراسات وبرامج وأوراق عمل، لكن ذلك لم يلقى أي اهتمام من قيادة المجلس وكذلك اقتراحي فيما بعد تشكيل لجنة من برلمانيين للقيام باتصالات وحملة علاقات عامة مع البرلمانات والمؤسسات الدولية لصالح الثورة.
وقد أدى اعتبار جميع الموظفين والمتعاقدين الحكوميين ومؤيدين للنظام وتصنيفهم منشقين بمجرد ترك وظائفهم والظهور في فيديو، أدى لتزايد أعدادهم بشكل كبير مما دفع دولة قطر الداعمة للثورة للعمل على تنظيمهم في كيان خاص ترأسه رياض حجاب الذي يعتبر أكبر المنشقين عن النظام في منصب رئيس الوزراء، ولكن التيار الذي أسسه حجاب لم ينفذ أيّاً من وعوده في تقديم الخبرة والحوكمة لمؤسسات المعارضة المختلفة وتوقف نشاطه عند وصول رياض حجاب وممثلين عن التيار لهيئات المعارضة، وقد حقق مكاسب مادية جيدة للكثير من أعضاء التيار.
أزعجت الانشقاقات الأولى النظام فكان يعمل على تشويه صورة المنشق على الفور ويلصق به التهم المختلفة أخلاقية أو مالية أو عمالة للخارج وبعد ذلك لم يعد يكترث رغم تفاقم الظاهرة، وقد أعلن رئيس النظام أن خروج المنشقين مفيد للنظام وبدأ يخترق المعارضة بشقيها السياسي والعسكري عن طريقهم، فيما أدت الشكوك الكثيرة لتحييد آلاف الضباط ووضعهم في مخيم خاص بلا عمل قريب من الحدود التركية رغم الحاجة لجهودهم وخبراتهم.
استساغ النظام لعبة الانشقاق وبدأ يدبر خروج بعض الشخصيات المهمة للخارج التي عملت لصالح النظام من خلال المنصات التي ابتدعها الوزير قدري جميل في موسكو والمتحدث باسم الخارجية جهاد المقدسي في القاهرة والذين أصبحوا مع آخرين محسوبين على النظام في النهاية أعضاءاً في الوفد الذي يفترض أن يفاوض النظام على رحيله.
لقد تعاملت المعارضة بسذاجة وازدواجية مع المنشقين من أجل تحقيق مكاسب سياسية واستجابة لضغوط الدول الداعمة، فبينما رفضت التعامل مع بعض المنشقين وعملت على إبعادهم وتهميشهم دفعت آخرين إلى مراكز قيادية مهمة مما أدى لتآكل النواة الصلبة لهيئات المعارضة التي يفترض أن تعمل على تحقيق أهداف الثورة.
لا رمادية في الثورة وكان يجب أن يستخدم شعار “الثورة تجب ما قبلها” فقط في إطار تحييد المنشقين وليس إعادة دمجهم في قيادات الثورة التي ناصبوها العداء.
من الصعب حصر الأضرار التي سببها كثير من المنشقين في الثورة وربما من الأصعب حصر المكاسب التي حصلوا عليها.. لكن للأمانة فإن بعض المنشقين الصادقين واجههم النظام والمعارضة بنفس الدرجة من العدوانية.
عذراً التعليقات مغلقة