ليس عليك أن تلعن أمانك الحالي أبداً، ولكن عليك فقط أن تسأله مبرراً واحداً لعبثية الرعب داخلك، والخوف الذي يقلص شعورك التام بالحياة، أن يؤكد لك حقيقته دون أن يجعلك تندم على وجودك تحت ظله الوارف في كل لحظة بينما يقطن الآخرون تحت موت محتم.
بقلب مرتجف ويد تكاد تسقط من مكانها أسفل هذا الجحيم المسمى حياة، وأنت تفتح كل صباح موجة الأخبار الغارقة بالدم باسم بلادك، المليئة بجراح أهلك الكثر، أولئك الذين صرت تنسى كيف كانت وجوههم بعد أن عوّدتك الحياة الآمنة على اختلاق فرص عيش تحت ضغط التوتر المادي والمعنوي والنفسي، ومنحتك لائحة متطلبات لتصير ابن العيش المشترك في بلاد تحاكمك بقانون المعايشة بعد أن طردتك بلادك الأم جهراً واحتوتك هذي البلاد بأمنها العظيم.
ثم تنسى! نعم، يبدو الأمر نقمة عندما لا تجد ما يبرر لك بشاعة ما تحياه ليلاً، عندما تهزمك كثرة الكوابيس، ويكسر ظهرك النحت في جدران هذه المدن الباردة الصماء لتنجو بعد نجاتك الأولى من الحرب وأنت تدرك استحالة ذلك، فقلبك الهش لا يزال يتهاوى عندما يسمع طائرة تعلو فوق رأسه وإن لم تكن طائرة عدو، فكونك سوري يعني أن ترى كل ما يطير في السماء موتاً، وكل ما ينفجر حولك هو سلاح شيطاني.
الأمن الذي تجده ثقيلاً مقارنة بالحيوات الكثيرة التي يقطن تحتها أبناء جلدتك في قضيتك وفي وطنك الأم، هناك حيث يكون الخوف منطقياً بما يكفي، والهلع له مبررات كثيرة أولها أن يسقط البناء كاملاً فوق رأسك، انتهاءاً بأن تعجز حتى عن إنقاذ أمك وتخبو روحها قبل أن تهمس لك “روح يا ابني مسامح الله يرضى عليك”.
صديقتي في دوما منذ يومين كانت تحاول النزول إلى الطابق الأرضي حرصاً على حياتها وحياة أبنائها عندما سقط البناء بجانبهم وعلقت هي بين طابقين ترتجف مع ابنيها الصغيرين وتبكي. هناك يصبح الأمل وليد لحظة نجاة صغيرة تكاد لا تتجاوز الدقائق ليتبعها غبار قذيفة جديدة وفزع آخر قد يحمل رحيلاً مجلجلاً لك أو لآخرين حولك ستشم رائحة جلدهم المحترق بعد ثوان.
تقول صديقتي داخل دمشق: “القذائف الكثيرة فوق رؤوسنا تشعرنا ببعض الذعر ولكن حالما نرى الطائرات ونسمع بعض ما يأتينا من الغوطة نشعر بأن ذعرنا ضئيل جداً ويكاد لا يذكر” تتحاشى صديقتي إياها أن تذكر لي أي شيء يتعلق بما آلت له الحياة هناك، تكتفي دوماً بقولها “ما عادت متل ما كانت” وكأن هذا يختصر الكل شيء مكاناً وزماناً وبشراً.
حتى بوصف أولئك الذين يهللون لانتصارات الأسد المزيفة منذ بدء الثورة ضده وحتى اللحظة رغم كل شيء، يمشون في الشوارع التي ألفناها بآمالنا الكثيرة يحملون صور الجلاد متغنين بممانعته العظيمة، يقدمون في الحارات وعند الإشارات بقلاوة النصر المزعوم في طريقهم الواصل للقدس بينما تهتز الأرض تحت أقدامهم محرقة الغوطة بأهلها على بعد أمتار وحسب، وعلى ذات الأرض حيث تبدو حتى رفاهية الكلام محظورة، يكفي أن تشاهد كل ذاك الظلم جهراً وتمضي بخيبتك العاجزة إلى منزلك لتبكي شهداء البلاد وتحرقك فداحة المشهد الدنيء الذي تضطر لعيشه مع هؤلاء هنا.. لا تبدو النجاة إذن أمراً محبوكاً وجيداً، لا تحت نيران الموت الذي قد لا يطالك، ولا حتى في منافٍ جرّتك لها الحياة في ظروف ما.
وإن جربت الهرب وتخليت عن سماع كل ذلك وأغلقت في وجهك كل الأبواب، وأحكمت إغلاقها كي تنقذ روحك ببعض ما بقي لك بعد جنون حرب وموت لا تملك شيئاً لتردعه. ردك الآمن الوحيد هو دعاء تحول بينك وبين سمائك المقصودة طائرات الظالمين الذين يزدادون دائماً، وتقف في حلقك الدعوات على شكل غصات متلاحقة، يمزقك بها عجزك، وتحرقك به لذة الحياة الآمنة حولك ولو زيفاً..من ينجو من الحرب إذن؟ إن كان دمارها قد استُحدث فينا نحن أولاً أبناء الحرية الضالون الذي آمنوا مرة واحدة أن لهم حقٌ في الحياة اللاعادلة هذه وماتوا دون ذلك.
في أوطاننا المنكوبة لا نجاة مع الحنين ولا انتهاء من حنين البدايات وكل خطوة في طريق الغد محفوفة بتعب الطريق الأول، وهذا طريقنا..
عذراً التعليقات مغلقة