تكاد الفوضى تغدو السمة العامة لكل ما يجري في سورية هذه الأيام، في ميدان التفاوض أو في ميادين القتال، أو حتى في العلاقة بين أطراف الصراع، حلفاء كانوا أو أعداء. ففي ميدان السياسة، تتزاحم المبادرات وتتنافس المسارات حول شكل الحل، أو اللا حل، ومدى ملاءمته للقوى الإقليمية والدولية ذات المصلحة، فلا تكاد تنتهي جولة مفاوضات هنا حتى تبدأ واحدة هناك، بالمشاركين أنفسهم أو بغيرهم. وفي حين تدعم الدول الغربية مسار جنيف الذي انطلق في يناير/ كانون الثاني 2014، وتشعب إلى فيينا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 نتيجة التدخل العسكري الروسي في سورية، تمكنت روسيا من إنشاء مسار آخر في أستانة، نتيجة معركة حلب في ديسمبر/ كانون الأول 2016، والتفاهم التركي – الروسي الذي تحول ثلاثياً بانضمام إيران إليه. وبسبب الفشل في تحويله مساراً سياسياً، بعد أن كان مخصصاً لمناقشة قضايا عسكرية، مثل وقف إطلاق النار ثم مناطق “خفض التصعيد”، ظهر سوتشي الذي يتوقع هو الآخر أن يتحول مساراً جديداً، إنما لمناقشة قضايا سياسية، مثل الدستور والانتخابات وغيرها، وهي القضايا نفسها التي يناقشها مسار جنيف. هناك طبعاً مسار ثنائي روسي – أميركي منفصل، يطفو إلى السطح فقط مع ظهور نتائجه، كما حصل في قمة هامبورغ (ألمانيا) ودانانغ – فيتنام، بين الرئيسين، الأميركي دونالد ترامبوالروسي فلاديمير بوتين.
انعكست فوضى المسارات فوضىً في تمثيل المعارضة ومشاركتها، ففي كل مسارٍ تبرز مجموعة من المعارضة العسكرية والسياسية، يتغير شخوصها بحسب الظروف والرعاة والمصالح، فردية كانت أو حزبية. وقد بلغت الفوضى ذروتها أخيراً بشأن مؤتمر سوتشي، ففيما رفضت الهيئة العليا للمفاوضات المشاركة، بضغط أميركي – فرنسي واضح، خشية أن يؤدي ذلك إلى تكريس سوتشي بديلاً عن جنيف، شاركت فصائل الشمال المحسوبة على تركيا، والتي تقاتل معها في عفرين، كما شارك محسوبون على تيارات وقوى سياسية في المعارضة، بما فيها الائتلاف الوطني، بصفة شخصية، على الرغم من أن تياراتهم قاطعت!
فوضى الميدان تبقى الأسوأ على الإطلاق، ففي حين تقدم روسيا غطاء للعملية العسكرية التركية، ولفصائل المعارضة التي تقاتل ضمنها في عفرين، يقصف سلاح الجو الروسي على بعد كيلومترات فقط الفصائل نفسها لتمهيد الطريق أمام تقدم قوات النظام في محافظة إدلب. ليس هذا فحسب، بل تضرب الفوضى أطنابها بين حلفاء المعسكر الواحد، ففي حين تؤمن روسيا غطاء للعملية التركية في عفرين، يرفض النظام وحلفاؤه الإيرانيون التدخل التركي، على الرغم من أنه يخدم أجندتهم الرافضة للتطلعات الكردية المدعومة أميركياً. طبعاً النظام الذي عزّ عليه يوماً الانحناء لشعبه، ابتلع اعتراضاته بأمرٍ من القيصر، وقد غدا مجرد تابع صغير في معسكره، يعتمد بقاؤه عليه.
لا يقتصر التناقض والتضارب على معسكر النظام، بل يطاول المعسكر المقابل أيضاً، ففي حين تعد تركيا والولايات المتحدة حلفاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إلا أن كلاً منهما يساعد خصوم الآخر، فواشنطن تزود خصوم تركيا الأكراد بالسلاح، فيما تعمّق تركيا علاقتها بموسكو، عدو “الناتو” الأول، وتشتري منها منظومة صواريخ إس 400 التي تتعارض كلياً مع أنظمة الحلف الأطلسي ودفاعاته الجوية. ويحتفظ الأكراد أيضاً بعلاقات مع روسيا والنظام السوري، على الرغم من أن واشنطن تعد حليفهم الأكبر. أما إسرائيل، الغائب الحاضر في الصراع السوري، فهي من جهة حليفة للولايات المتحدة، لكن رهاناتها في الحد من نفوذ إيران وحلفائها في سورية يعتمد على رضا روسيا التي تسمح لها بتوجيه ضرباتٍ محددة ضد حزب الله وقواعد إيران في سورية، علماً أن روسيا تعد غطاء إيران الجوي في حربها على المعارضة السورية.
وسط فوضى المصالح هذه وتضارب الأجندات، ضاع السوريون وتحطمت أحلامهم، وغدوا مجرد بيادق في ميدان الحرب والسياسة، يقاتلون هنا ويتفاوضون هناك، يشاركون هنا ويقاطعون هناك، حسب مشيئة الراعي وتفاهماته الدولية، من دون أن يفهموا بالضرورة حقيقة ما يجري حولهم. لم يعد قطعاً للحرب الدائرة في سورية علاقة بمصالح السوريين أو تطلعاتهم، بل غدت حرب الآخرين على أنقاض بلادهم، أو ما تبقى منها: أميركا ضد روسيا، تركيا ضد الأكراد، إسرائيل ضد إيران، إيران ضد الجميع، ولن تتوقف هذه الحرب حتى آخر قطرة من دمائنا، نحن “الحمقى” أو “المساكين” السوريين، كيفما اخترت أن تنظر لها.
عذراً التعليقات مغلقة