مع إعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ترشيح نفسه لولاية ثانية على التوالي، ورابعة بشكل متقطع، وثقته بالفوز في هذه الانتخابات بدرجةٍ تشبه يقين الديكتاتوريات العربية سابقاً بـ “تجديد البيعة” مرة بعد مرة، يسقط عن روسيا تسمية “الدولة العميقة”، فلم يعد من وجود إلا لشخصٍ يستطيع، باستخدام علاقاتٍ داخلية محضة، التوفيق بين حفنةٍ من التجار ورجال الأمن وبعض التكنوقراط، فيضمن، بكل سهولة، 80% من الأصوات.
تظهر روسيا البوتينية بعيدةً عن الاتحاد السوفيتي، على الرغم من أنها ما زالت تتمرغ بهدوء بين دوله السابقة، وتخلق لنفسها بعض المدى المضمون عسكرياً واجتماعياً، ولو أنها استطاعت، بما تملكه من نفط وغاز، التمدّد في فضاء أوروبا الغربية إلى حدٍ تحتاجه للتموضع عسكرياً على شطآن دافئة شرق المتوسط، وتحت بصر حلف شمال الأطلسي.
كانت السلطة في الاتحاد السوفيتي تعتمد نظريةً فلسفيةً ذات قواعد اقتصادية، تحولت إلى نظام سياسي قدمت له نتائج الحرب العالمية الثانية فرصة السيطرة على نصف أوروبا، ففرض نفسه كما الاحتلال، وأشاع جواً أيديولوجياً تغلغل في شوارع مدقعة، ومدن شبه قاحلة، تنفث الدخان إلى الأعلى بشكل شبه مستمر. وعلى الرغم من ذلك، استطاع السوفييت أن يوصلوا سيارة كهربائية سارت على سطح القمر، ويمكن التحكم فيها من موسكو، كانت في حينها أشهر من قدم نيل آرمسترنغ التي حطت على سطح القمر، هذا الإنجاز يعود الفضل فيه لوجود حزبٍ متحفظ ومنضبط.
تهاوت هذه الأيديولوجيا في روسيا الوريثة التي لم تستطع أن تجد بديلاً لها، حتى وصل بوتين من مكان ضليل، وفرض شكلاً له رتابة الأيديولوجيا، وله الأعراض الجانبية نفسها للديمقراطية، من دون الدخول في لجها العميق. تربع بوتين مرتين على كرسي الرئاسة، واحتال، بشكل سلس، على الدستور، فتناوب مع رئيس وزرائه على الكرسي، ثم عاد إلى منصبه “الطبيعي”. هذا التاريخ السريع هو تاريخ بوتين الشخصي، وهو كذلك تاريخ روسيا التي فقدت أيديولوجيتها وعثرت على شخصية بوتين.
أجرى بوتين تحالفاً مع تركيا وإيران، وشكّلوا تكتلاً ثلاثياً يريد حل المشكلة السورية، واحتفظ بعلاقاتٍ طيبة مع السعودية، وحافظ على شهر عسل شبه دائم مع إسرائيل، والكثير الكثير من الأواصر المتوجسة ذات الطبيعة المقبولة مع أميركا، فلم يزعزع العلاقة بينهما قصف دونالد ترامب مطارا سوريا أخلاه الروس مؤقتاً، لإنجاح ضربةٍ تبين أنها سياسية في المقام الأول، وتبادل كل من الطرفين فيتوهات ضد اقتراحات الآخر، من دون أن يعكّر ذلك الهدوءَ العام بينهما. وفي كل هذا، ظهر الحضور القوي لشخص بوتين إلى جانب وجود شرفي للدولة التي كانت إمبراطورية.
بعد أكثر من سبعة عشر عاماً قضاها بوتين في حكم روسيا، أربعة منها رئيساً للوزراء، يبدو أن ما يحرّك بوتين دوافع، بعضها شخصي، ومعظمها ظرفي كالحرب في سورية، والصراع الإيراني السعودي، والمواجهات بين كوريا الشمالية وأميركا. وهنا، لا بد أن نشعر بغياب روسيا، الدولة ذات الكاريزما الأيديولوجية السابقة، في مقابل حضور قيصر من نوع جديد، لا يتوانى عن السباحة في بحيرةٍ متجمدةٍ في مناسبةٍ دينيةٍ، لإظهار أشياء كثيرة، ليس من بينها قوة روسيا الدولة. سأله طالب في أثناء لقاء أجراه مع التلاميذ: “ماذا ستفعل بعد أن تذهب إلى التقاعد؟”، رد بوتين: “لا أعرف إن كنت سأترك منصب الرئاسة”!، ولكن في العام 2022 بعد أن تنتهي ولايته الجديدة سيكون بوتين قد وصل إلى السبعين، والعالم مفتوحٌ أمام روسيا لتحديات جديدة وكثيرة، وهي لا تملك غير شخصية الرجل العجوز الذي سيقف أمام دستورٍ يمنعه من إعادة الترشح.
أمام روسيا في السنوات الأربع المقبلة أن تعمل على إنتاج كاريزمات جديدة، أو ستقع وسط أزمةٍ تشبه، إلى حد بعيد، أزمة أوكرانيا التي ما زالت تبحث عن وجهٍ ما، وهي الدولة التي تقف بمواجهتها روسيا ذاتها في هذه اللحظة.
عذراً التعليقات مغلقة