حكاية سوريا – العقلية الإقطاعية

زكي الدروبي22 يناير 2018Last Update :
حكاية سوريا – العقلية الإقطاعية

تحدثت في مقالة سابقة من سلسلة “حكاية سوريا” أن انقلاب الجيش صباح 8 آذار 1963 جمّد المجتمع ولم يتطور لغياب السياسة، وهي المحـــــرك الرئيسي في عملية تطور المجتمع – حسـب وجهة نظري على الأقــل – كيف هذا؟

حتى نهاية خمسينات القرن الماضي، كان النظام الإقطاعي صاحب الكلمة الأولى في العمل السياسي، ولم يكن تجار وصناعيو المدن ذوي تأثير كبير، وذات الأمر ينسحب على الطبقة المتوسطة من المحامين والأطباء والصيادلة، وكانت المدن تعيش معزولة عن بعضها البعض، ضمن بحر كبير من الريف الذي كان يفرز طبقته من الإقطاع السياسي التقليدي الذي حمى مصالحه، وهذا ما أثبتته الانتخابات البرلمانية خلال تلك الفترة، فقد كانت طبقة المستقلين من إقطاعيّ الريف هي الأقوى في البرلمان السوري، وتجمعت ضمن كتلة واحدة برئاسة خالد بيك العظم، هذه الطبقة السياسية حمت مصالحها وامتيازاتها، ويمكن ملاحظة القوانين التي أصدرت في تلك الفترة، ومشاريع الري لتطوير الزراعة، وزيادة المساحات المروية، وهي كلها تلائم احتياجات هذه الطبقة، وتدافع عن مصالحها، فمثلاً كانت المنتجات الزراعية معفيةً من الضرائب، بينما تركزت الضرائب على الدخل والإرث والعقارات و… إلخ

ورغم أن الصناعة ليست غريبة على بلادنا، فقد جرى في منتصف القرن ما قبل الماضي محاولات للتحول الصناعي وكانت دمشق عاصمة صناعة الحرير، إلا أن الفتنة الطائفية التي حدثت بعد عام 1860 والمشهورة بـ “طوشة النصارى” في دمشق، دمرت مزارع إنتاج الحرير في لبنان، ودمرت مشاغل الحرير في دمشق. إلا أنه لم تتشكل صناعات كبيرة بالمعنى المعروف، وبالتالي لم تتشكل طبقة العمال، واستقر الوضع على ورشات صغيرة معظمها عبارة عن عمل عائلي، ومصانع متوسطة تركزت في حلب.

وكان المجتمع السوري يسير في الطريق التقليدي للتطور الاقتصادي، عبر تطور الزراعة، وازدياد المنتج الزراعي، ودخول التصنيع الزراعي، لتتطور الصناعة بدورها وتدخل صناعات أخرى أكثر تطوراً … إلا أن قرارات التأميم العشوائية التي نفذتها الأحزاب القومية “الناصرية والبعثية” دمرت هذا التطور المنطقي للمجتمع، وفي ذات الوقت لم تحدث التطورات المرجوة منها بتحرير الفلاحين من طبقة الإقطاع التقليدية.

هذا التكوين السياسي للجماعة السورية آنذاك توافق مع طبيعة العلاقات الاقتصادية التي ذكرتها، فكانت العلاقة علاقة أبوية وصائية، علاقة الزعيم مع متبوعيه، “البيك، الآغا، … ثم القائد والأب و.. وصولاً للأمير عند الجماعات الإسلامية” وكلها علاقات استتباع، وليست علاقات سياسية قائمة على الحوار والندية.

وبالتالي ومع وضع المجتمع السوري في الثلاجة بعد انقلاب الثامن من آذار 1963، وفرض حالة الطوارئ وكم الأفواه، وسجن المعارضين، وتصفية بعضهم، وإغلاق الصحف، والسيطرة على كل مؤسسات الدولة فيما بعد من النقابات إلى المؤسسات التشريعية والتنفيذية و… توقف تطور العلاقات السياسية والاجتماعية في المجتمع، وبقيت العلاقات السياسية على شكل الإقطاع السياسي، واستقرت علاقة الاستتباع بين الإقطاعي، الأب القائد، الأمير لدى تنظيمات الإسلام السياسي، وبين أتباعه من الفلاحين أو الأتباع لدى الأحزاب القائمة أو المريدين لدى الجماعات الإسلامية.

استقرار هذه العقلية، وتناقضها مع البنى الاجتماعية والسياسية الجديدة التي تشكلت بعد مرحلة التأميمات، ومرحلة بدء دخول التصنيع، أدت لهزيمة المشروع القومي في حرب 1967، ومن ثم تراجع نفوذه في الوسط الشعبي، وتحوله لمشروع استبدادي يعتمد على أجهزة المخابرات والقمع.

مع هزيمة الفكر القومي، ساد الفكر اليساري متأثراً بالاتحاد السوفيتي والدعم الذي قدمه للشعوب ضد الامبريالية الأمريكية، وضد الكولونيالية التقليدية، لكن الأحزاب اليسارية الموجودة فشلت في التعامل مع هذا المد الجماهيري الذي حدث، بسبب بنيتها التقليدية التي لازالت تتبنى العقلية الإقطاعية، وهيمنة الزعيم “الأمين العام” على الحزب، وبسبب علاقات الاستتباع مع الاتحاد السوفيتي، والذي كان يطرح مشاريع تناسبه هو، لكنها لا تنطلق من الواقع السوري المحلي، هذه الأحزاب التي كان يجب أن تدافع عن حقوق الفقراء، والطبقات الجديدة المتشكلة، تركت مهمتها الاجتماعية التقليدية، وتبنت المهام الوطنية وتحرير فلسطين، فلا هي استطاعت تحرير فلسطين، واسترجاع الأراضي المحتلة بعد عام 1967، ولا هي استطاعت أن تخدم طبقتها الاجتماعية التي تمثلها فانعزلت عن المجتمع.

ولم تنجح محاولات تشكيل أحزاب جديدة بسبب قمع النظام وإرهابه، بالإضافة للهجوم عليها من قبل الأحزاب التقليدية التي تحالفت مع السلطة، مما أدى لاستقرار عقلية الإقطاع السياسي المتمثلة في الزعيم/القائد الملهم في الأحزاب التقليدية، والمرشد/ الأمير في الأحزاب الإسلامية، فتناقض المجتمع مع كل هذه التركيبة، وهي تركيبة متشابهة في معظم الدول العربية، مما أدى لانفجار المجتمعات وانطلاق الربيع العربي.

الشعوب التي أطلقت ثورات الربيع العربي، والتي تسببت بتشظي الأحزاب والتكوينات السياسية التقليدية، بعد تعريضها للشمس بعد طول استنقاع، يجب أن تكمل مهمتها بإعادة تكوين هذه الأحزاب والتنظيمات السياسية بما يتماشى مع العقلية الجديدة، عقلية المؤسسات والحوار والندية في التعامل، عقلية الديمقراطية وتداول السلطة، والتي تحترم فصل السلطات واستقلالية النقابات، وترى في رئيس الجمهورية مجرد موظف لدى الشعب، ويخضع لمسائلة البرلمان المنتخب من الشعب، ولديه فترة محددة في الحكم، وبعدها يترك ليأتي غيره.

  • حكاية سوريا: سلسلة مقالات تستعرض ملامح ورؤى من التاريخ البعيد والقريب لسوريا، يمكن من خلالها فهم أسباب ما يجري من حروب ودمار على أرضنا، حسب وجهة نظر كاتبها.
Comments

Sorry Comments are closed

    عاجل