قال الأستاذ شوقي: ولكن، أين ذهب أبو أيوب في هذا الضحى؟
ضحك النادل أبو سعدو وقال: أأنت لا تدري؟ اليوم أبو أيوب، بعيد عنك، طق عقله!
– طق عقل أبو أيوب اليوم؟! على علمي أنه من دون عقل أساساً، فأي عقل هذا الذي طق؟!
قال أبو سعدو بجدية تامة: منذ ثلاثة أيام وأنا والمعلم والشباب نحاول إقناعه بألا يرشح نفسه لعضوية المجلس النيابي، دون جدوى. أبو أيوب مجنون، بعيد عنكم، مجنون برخصة!
حرك أبو سعدو بصره متنقلاً بين وجوه الأدباء الثلاثة ليرى تأثير جملته الأخيرة عليهم، ثم قال:
-أنا بعرف إنكم بتحبوا أبو أيوب، ودائماً بتمزحوا معه بطريقته وقت بيحكي بالنحوي، وهو كمان بيحبكم وبيقدركم وبيسمع كلامكم، منشان هيك أرجوكم تحاولوا إقناعه بالإقلاع عن هذا العمل حتى ما تتبهدل كبرتُه ويصير مضحكة للي يسوى واللي ما يسوى.
فجأة ارتفعت أصوات الزبائن المتداخلة التي تشير إلى أن أبا أيوب قد دخل إلى المقهى، وأخذ بعض تلك الأصوات يتوجه إليه باللائمة على فعلته الخطيرة تلك، وأمعن بعضهم في التأكيد على أن للنيابة أهلها، فمن يكون أبو أيوب، لا مؤاخذة، حتى يرشح نفسه؟ أهو سعد الله بيك الجابري، أم رشدي بيك الكيخيا، أم فارس بيك الخوري؟
وضع أبو أيوب إصبعه على فمه طالباً من الزبائن أن يسكتوا، فلما سكتوا قال لهم: انتظروني لحظة. ودخل إلى البوفيه حيث تخلى عن ثياب الجاه ومقابلة الحكام، وارتدى هلاهل الفقر و”التعتير”، وحمل منقل الجمرات، وخرج باتجاه الأدباء الثلاثة وقال لهم وهو يضع ويصفف الجمرات فوق رؤوس الأراجيل، متكلماً بالفصحى المكسرة:
أنتم تسألونني ليش رشحتُ حالي للنيابة، وكان لازم تطلبون مني الترشيح، فوقت سوف أنجح وأصير عضو في المجلس بدي أكون عون لكم وسند.
قال الأستاذ نجاة محاولاً تكسير الفصحى مثله: ولكن، يا قَبُو قَيُّوب، من الذي سوف ينتخبك؟
قال أبو أيوب باندفاع: عد على أصابعك يا أستاذ. كل من يضع نارة فوق أرجيلة في الشام والمصايف ينتخبوني. أنا، قبلما أشتغل في النارة، كنت أبيع سحلب على العربانة، معناتها كل بياعين السحلب في الشام وضواحيها وكل الذين يشربون السحلب ينتخبوني. اشتغلت من زمان مكيس في حمام “الجوزة” بعين الكرش، مكيسين الحَمَّامات إذا كان عندهم وجدان يطبُّون لي أوراق بيض. ومن زمان، لما كنت أشتغل في المصايف، كان عندي بيت بين الشجر، وكان كل واحد شاب معه “تطبيقة” وما يلاقي مكان يتآوى فيه كنت أعطيه بيتي ببلاش، هؤلاء الجماعة كلهم، رجال ونسوان، يطبون لي أصواتهم، لإني مسلف معهم بالخير! بياعين عرانيص الذرة، يعطوني أصواتهم، لإني بزماني بعت عرانيص، وكان غيري يبيع العرنوص بنص ليرة، أنا كنت أبيع تلاتة عرانيص بليرة.
الجرَّارين الذين يوقفوا في المرجة ويأخذون الزبائن إلى الأوتيلات، زملائي، ينتخبوني، وأنا لا أخبي عنكم، من زمان لما ضاقت فيني الأيام، فتحت في بيتي مقمرة، وصاروا القمارجية يلعبون عندي في البيت، ولما كنت أشوف قمارجي مسكين يخسر باستمرار كنت أقعد وراء خصمه وأغمزه على أوراق اللعب حتى يربح، هل يعقل هدول كمان ما ينتخبوني؟
زفر أبو أيوب زفرة مَن أزاح حمولة ثقيلة عن كاهله وقال بلغة المنتصر:
إذا كل هدول سينتخبوني يا أستاذ، أنا أبوس يدك، مين صفي في البلد؟!
عذراً التعليقات مغلقة