مصطلح الشعبوية يستخدم عادة لوصف أولئك الذين يركبون الموجة، ويريدون تسجيل النقاط الرخيصة، وبلوغ الأهداف الخاصة بسهولة ويسر، عبر التزام النزعة الشعاراتية، وإثارة المشاعر والغرائز العصبوية، ومن دون أي تحمّل للمسؤولية، أو الاعتراف بالأخطاء. وقد استخدم هذا المصطلح لأول مرة في روسيا في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر.
وهناك من يربط بين هذا المصطلح والحركات العنصرية اليمينية المتطرفة، التي تهاجم المؤسسات التقليدية القائمة، والنخب السياسية، وحتى الفكرية. إلا أنه من الملاحظ أن الشعبوية لا تقتصر على الاتجاهات اليمينية وحدها، بل إن بعض الحركات اليسارية المتطرفة، وحتى تلك التي التزمت قضايا حماية البيئة، والدفاع عن حقوق المرأة، تأثرت هي الآخرى بهذه النزعة، وتمترست خلف الشعارات، من دون أي التزام بتحويلها إلى وقائع، أو العجز عن ذلك.
ونحن هنا لسنا في وارد تناول تاريخ الشعبوية، وأنواعها، والآراء التي قُدمت حولها، طالما أن دلالاتها العامة باتت مفهومة إلى حدٍ كبير، هذا مع أهمية الإشارة إلى عدم وجود تعريف جامع مانع، متفق عليه حولها من قبل الباحثين الذين تناولوا هذه الدراسة بالبحث والنقد. وإنما سنركز على التمظهرات الطاغية للنزعة المعنية في واقعنا الراهن بمستوياته المختلفة.
فعلى المستوى الدولي، نعيش ظاهرة دونالد ترامب التي تجسّد أبعاد الأزمة العميقة التي تعيشها المجتمعات الديموقراطية نتيجة الترهّل، وتفاقم حالات الفساد، والعجز عن مواكبة الوتائر السريعة للتقدم التكنولوجي في كل الميادين، واتساع الشرخ بين العلوم الطبيعية وتطبيقاتها من جهة، والعلوم الاجتماعية والإنسانية بصورة عامة من جهة ثانية، هذا إلى جانب إهمال ضرورة تنمية الملكة النقدية لدى الطلاب والعاملين في مؤسسات المجتمع، العامة منها والخاصة، وما تبع ذلك من انتشار لثقافة الصمت أو عدم الاعتراض، وتنامي سلطة الرؤساء والمديرين، وهي السلطة التي يتم تغليفها بكم هائل من التدابير والإجراءات الروتينية التقنية، التي تغدو في الكثير من الأحيان هدفاً بذاتها ولذاتها، لا وسيلة من أجل التوثيق، والاستفادة الفاعلة من تراكم الخبرات والتجارب.
وفي مقابل شعبوية ترامب المتمحورة حول هاجس التطرف الإسلامي، وما يشكله المهاجرون من ضغط، وفق منظوره، على المجتمع الأميركي، والتركيز على المصلحة الأميركية المباشرة العارية، تأتي شعبوية بوتين الذي يبدو أنه ينتقم للمصير الذي آل إليه الاتحاد السوفياتي قبل نحو ربع قرن. فيحاول أن يؤكد عظمة روسيا في معركة غير متكافئة من ناحية العدد والعدة. معركة أعلنها على الشعب السوري لمصلحة النظام، مستغلاً العجز والتقاعس الدوليين اللافتين.
وبالتناغم مع نزوعه الشعبوي، وفي سياق تسويقه لحملته العسكرية المتوحشة على السوريين، يركــــز بوتين على أهمية تجربة الأسلحة الجديدة في ســـورية، تمهيداً لترويجها في الأسواق. كما يشيد بتمـــكّن الجيش الروسي من رفع كفاءته من خلال اشــتراكه في عمليات قتالية حقيقية مضمونة النتائج، أشبه بعمليات تدريب بالذخيرة الحية. كل ذلك لدغدغة عواطف االشعب الروسي وحنينه إلى دور القوة العظمى، ورغبته في مستوى معيشي أفضل.
ولا تقتصر النزعة الشعبوية على كل من الولايات المتحدة وروسيا وحدهما، بل هي منتشرة في العديد من الدول الأوروبية ايضاً سواء الغربية منها أم الشرقية، عبر الأحزاب اليمينية والعنصرية التي تبني سياساتها على إثارة موضوع تزايد أعداد المهاجرين وتفاقم المشكلات الناجمة عن ذلك. كما تقوم القوى المعنية بعملية ربط بين زيادة أعداد المهاجرين وتصاعد وتيرة العمليات الإرهابية، والتطرف الإسلاموي، الأمر الذي يساهم في ترسيخ أسس ظاهرة الإسلاموفوبيا، وتوسيع دائرة انتشارها.
أما على المستوى الإقليمي، فأصبحت المنطقة ساحة للاستقطاب الشعبوي المذهبي، وإلى حد ما القومي، وذلك نتيجة سياسات النظام الإيراني التوسعية، وسعيه المستمر من أجل زعزعة استقرار الدول المجاورة عبر استخدام جملة أوراق في مقدمها الورقة المذهبية، إضافة إلى الورقتين الفلسطينية والكردية، الأولى من خلال حماس، والثانية من طريق حزب العمال الكردستاني. وقد تمكّن النظام المعني بشعارته التضليلية الديماغوجية، وأمواله وجهوده العسكرية، من تشكيل ميليشيات محلية في مختلف الدول، ميليشيات تبنت هي الأخرى الشعبوية نهجاً في ميدان تحشيد جمهورها، ومواجهة الفرقاء الآخرين من شركائها في الوطن.
ما ترتب على ما تقدم هو أن الجميع انساق مع هذا النهج، وذلك في سياق ردود الأفعال التي كانت لمواجهة ما يجري بالأدوات ذاتها، الأمر الذي أدخل المنطقة في دوامة من العنف والتدمير الذاتي منذ سنوات. ولا تبدو في الأفق أي مؤشرات توحي برغبة الأطراف المتصارعة في تجاوز الوضعية المأساوية القائمة، وذلك من خلال حوارات مسؤولة بناءة بهدف الوصول إلى الحلول الإبداعية الإنقاذية. فما زال “النصر” العسكري هو الهدف بالنسبة إلى النظام الإيراني. أما مزاعمه ودعواته بخصوص التفاهمات، فليست سوى تقية مطلوبة للتستر على المقاصد النهائية.
وهذا ما نلاحظه على وجه التحديد في واقعنا السوري المحلي. إذ يعمل النظام المعني عبر أداته الأكثر اعتماداً، حزب الله، وبالتنسيق الكامل مع نظام بشار، على استكمال الهيمنة الشاملة على القسم الأعظم من سورية، تحت شعار محاربة الإرهاب التكفيري، هذا الإرهاب الذي انتعش أصلاً في منطقتنا نتيجة تنسيق وتكامل مستمرين في ميدان الجهود المخابراتية والعسكرية بين النظامين المذكورين.
لقــــد بـــات شعار مكافحة الإرهاب، في وقتنا هـــــذا، شعاراً شعبوياً، يلبي الحاجات المحلية للنظام، والمشاريع الإقليمية للنظام الإيراني، فضلاً عن تناغمه مع توجهات النزعة الشعبوية على المستوى الدولي. وفي أجواء كهذه، تصبح حاجات الشعوب، وتطلعاتها من أجل مستقبل أفضل لأجيالها المقبلة، من الأمور التي لا تستحق أي اهتمام أو دعم.
وما يستشف من المعطيات والقرائن وحصيلة الاستقراءات، هو أن التلويح بخطر الإرهاب قد غدا القوة الدافعة لمشاريع إعادة هيكلة المنطقة، وصياغة توازنات جديدة فيها. فهذا الخطر أصبح تحت الطلب، يتنقّل، يظهر ويختفي، يهاجم ويتراجع، وفق الخطط والمرامي التي تستهدف تحديد المصائر في منطقتنا وغيرها من المناطق، بناء على حسابات تؤكد كلها مدى عمق وكارثية الأزمة القيمية الكونية التي يشهدها عصرنا هذا.
عذراً التعليقات مغلقة