“يا عم هذا الجيش قوي .. ألم أقل لكم إنه لن يسقط .. هذا النظام وحشي .. أنا اعرفه .. عشرون عاماً وأنا اعمل معهم .. إدارة أمن الدولة .. لا يعرف معنى هذا الاسم إلا من عمل هناك .. أعرف كل أقنعتهم .. قذارتهم وإجرامهم .. يا عمي الله يخليك أقعد بالبيت أو أهرب بعيداً قبل دخول الجيش .. غادر الآن فالمدينة لها مخارج كثيرة”.
ابتسم الشاب وابتعد عن عمه إلى زاوية الغرفة.
أزيز الرصاص يقترب .. قذيفة هنا وأخرى هناك ومع كل دقيقة تمر تزداد حدة القصف والمدينة زحفت عليها العتمة مع ازدياد الخوف في عيون المختبئين خلف الجدران.
حمل الشاب بندقيته القديمة والجعبة التي غنمها من معركة سابقة.
“لا تخاطر بنفسك” .. كلمة أخيرة سمعها الشاب قبل أن يغلق الباب خلفه.
تجمع شباب الحارة الشمالية ووضعت خطة بدائية لحماية البيوت من اقتحام الجيش والشبيحة .. توزعوا في الزوايا وخلف الحجارة المتناثرة.
في المنزل كان العمُّ يحمل إبريق الوضوء يتلمس طريقه داخل الغرفة الخالية من النوافذ .. قبل أن يتم العم صلاته .. دُفع الباب الخشبي بقوة ليدخل الشاب مترنحاً .. سقط في وسط الغرفة يسبح بدمائه وبصوت واهن حدَّث عمه بكلمات قصيرة .. صوت بكاء النسوة وصراخهن لم يترك مجالاً للعمِّ كي يسمع جيداً همسات الشاب الشهيد.
بعد أن قام العمُّ والنسوة بدفن الشاب في المساحة الضيقة بين غرفة العمِّ وغرفة الشاب حمل العمُّ بندقية ابن أخيه وجعبته وغادر بعيداً عن البكاء المكتوم لنسوة تغلب خوفهن على الحزن.
في الشارع كان هناك عويل وصراخ من بيوت كثيرة وعتمة الشارع مع أصوات القصف والرصاص تعيدك إلى جو لا يمكن تلمس معالمه .. قد يكون فيلماً قديماً للحرب العالمية الثانية.
تحرك العم ملتفاً حول مسجد “أبا يزيد البسطامي” من جهة الغرب .. انتبه لوجود شابين يرتعدان خوفاً يقفان خلف حجر ضخم .. “أين الجرحى؟” تحدث إليهما بهمس.
أجاب أحدهما بحركة من يده وعيناه لا تخفيان الخوف بداخله .. توجه العم عبر زقاق ضيق إلى غرفة صغيرة دفع بابها الخشبي المتهالك بيده .. عيون كثيرة مرهقة تحاول جاهدة أن تبرق داخل الظلام .. بيده تلمس معالم شباب خمسة ينامون بهدوء أحدهم فارق الحياة منذ قليل والأربعة الباقون يئنون من الألم والدماء في كل مكان .. صوت الرصاص كثير في الأزقة المحيطة بعضها يرتطم بجدار الغرفة .. جاءه صوت ضعيف خافت .. “أريد شربة ماء”.
“يارب .. من أين آتي لهذا الشهيد الحي بشربة ماء .. سامحني يا االله”.
باعد بين الجرحى وتمدد بينهم في مكان يقابل باب الغرفة .. ضغط على بندقيته بعد أن تأكد من جاهزيتها .. ارتاح قليلاً ومدّ ساقيه بعيداً وقد اعتاد صوت أنين الجرحى من حوله.
هدأت الأصوات قليلاً .. صوت رصاص من بعيد بين لحظة وأخرى .. أصوات تقترب .. لهجة يعرفها .. لطالما كانت اللهجة الأقوى في أمن الدولة .. عندما كان واحداً من الوحوش الذين يداهمون ويقتلون بحجة خدمة الوطن .. لكن هل خدمنا الوطن؟ ضحك في سرّه وتنهد نافخاً صدره ليستجمع قواه… “يبدو أننا أمضينا العمر نقتل الشرفاء ونحمي المجرمين .. هل يعقل هذا؟ عشرون عاماً من الكذب ونحن فرحون بما ننال من انتصارات وهمية .. يالله كم كنا أغبياء”.
صمت ليسمع أصواتاً بلهجة ثقيلة .. سمع أصوات لهاثهم .. خوفهم .. تخيل نفسه بينهم ولطالما كان بينهم .. “سلّم نفسك يا ابن الـ…” .. رصاص كثيف .. خطوات متسارعة .. رصاص ثم جسد يسقط على باب الغرفة .. كثر يتراكضون في الأزقة مبتعدين ومقتربين ثم .. صمت وهدوء .. لحظات وجاء صوت مألوف بلهجة ليست غريبة: “كانوا يخبئون الجرحى في هذه الغرفة .. والله لا أعرف أكثر من ذلك” .. رصاصة واحدة وعاد الصمت .. “أنا أعرفهم وأعرف كيف يفكرون .. سوف يكسرون الباب مندفعين .. لطالما شاركتهم هذا العمل .. اللعنة على هذه الذاكرة .. بعد هالعمر وماعم أنسى” .. ضربة قوية على الباب سقط بكامله .. حافظ العم على هدوءه .. بعينيه كان يقول: أدخل أيها الضابط.
“معلم كأنهم جميعا موتى” .. “ابتعد قليلا”.. اقترب الضابط من الباب متلمساً طريقه بين الجنود .. واحد اثنان ثلاثة .. رفع العم رأسه.. “الله أكبر” فتح النار عليهم .. تطايرت أشلائهم .. جهاز اللاسلكي طار بعيداً وخوذة الضابط ابتعدت عن رأسه كثيراً .. جنوده كلّ سقط باتجاه .. جثا الضابط على ركبتيه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.
ساد لغط خارج الغرفة .. “ابتعدوا هناك إرهابيون” .. “الغرفة ملغمة ابتعدوا عن الباب”.
ضحك في سره .. “يا أنذال أعرفكم .. ستعودون .. ستموتون هنا” .. بقدمه أبعد جثة الضابط عن الباب ليتمكن من رصد أي حركة يقوم بها جند الإجرام .. “أنا هنا بانتظاركم” ..عاد لصمته والبندقية جاهزة للإطلاق بيده.
عادت الهمهمات والدمدمات حول الغرفة .. ابتسم في سره “والله أعرفكم وأعرف أنكم ستعودون”.
أصغى السمع قليلاً .. هم على جانبي الباب .. واحد اثنان .. الآن سيدخلون .. في تلك اللحظة كان اثنان فوق رأسه بخفة .. لكن رصاصاته كانت أسرع منهما .. أرداهما وسقطا إلى جانب قائدهما.
من الخارج جاء رصاص كثير أصاب جثث الجنود .. من خوفهم لا يعرفون على من يطلقون وربما بعض الرصاصات أصابت الجرحى إلى جانبه… لكن القريب منه لازال يريد شربة ماء.
شعر بحرقة في فمه وخدر في يده وربما رصاصة دخلت في جسد هذا العمِّ المتقاعد .. العتمة الشديدة منعته من التمييز بين دمه ودم الجنود الذين قتلهم.
“أعرفكم أيها الأنذال .. الآن ستبحثون عن طريقة أخرى .. لن تعودوا لفترة طويلة وربما حتى ينبلج الضوء فالخوف يقتلكم” .. سحب جسده باتجاه الجدار ليتكئ عليه ويبتعد عن مدخل الباب فالرصاصات في بندقيته أصبحت معدودة .. أسند رأسه إلى الخلف على جدار حجري.
جاءه الصوت الحزين: “أريد شربة ماء” .. ضحك العم في سرّه من أين الماء يا فتى؟ قد نشربها هناك بعيداً .. عادت الجلبة إلى الشارع .. “عدتم سريعاً أيها الأنذال ليس على عادتكم”.
صوتٌ معدن يتدحرج ويدخل الغرفة ثم أخرى ثم ثالثة .. بدأت الرائحة تنتشر.
أسلوب جديد “يا أولاد الحرام أسطوانات غاز بدكم تخنقونا” .. حمل بندقيته ليطلق النار .. تذكر أن الغاز منتشر .. سقطت البندقية من يده لا سيما أن الخدر أصاب ذراعيه وقدميه كما أنه بدأ يشعر بالبرد الشديد والنعاس .. أحس بالحاجة إلى النوم.
ضوء الفجر بدأ يتسلل إلى الغرفة .. لطالما كان الفجر جميلاً في هذه المدينة .. لماذا الفجر بشع في هذا الصباح؟ رائحة الدم والموت في كل مكان .. الجثث متناثرة هنا وهناك .. في تلك الغرفة الصغيرة وعند الباب تناثرت سبع جثث لجنود وضابط يتوسطهم .. وداخل الغرفة خمس جثث والسادس اتكأ على الجدار وقد كتب خلفه بدم .. لا أحد يعرف هل هو دمه أم دم غيره لكنه كتب: “الله محمـ …” وقد فارق الحياة قبل أن يكمل كلمة محمد (ص).
جمعت الجثث فوق بعضها البعض في سيارة عسكرية “زيل” وانطلقت .. لا أحد يدري إلى أين .. لكن السائق الأشيب لو أصغى السمع قليلاً لسمع إحدى الجثث تصرخ بصوت مكتوم: “أريد شربة ماء” .. من أين الماء يا فتى ستشربه مع العم في الجنة بإذن الله.
Sorry Comments are closed