غدا المشهد الميداني والسياسي السوري شديد التداخل والتشابك والتعقيد، ما أثار مشكلة للمحللين والمعلقين السياسيين، إن لجهة قراءة المشهد، وتفسير تحولاته وتطوراته، أو لجهة تقدير مآلاته، والنتائج المتوقعة أو المنتظرة. من تلك التقديرات دراسة “القضية السورية حصاد عام 2017″، أعدّها مركز جسور للدراسات، نشرها يوم 3/1/2018، ناقش فيها ما اعتبرها “تغيرات دراماتيكية في المشهد السوري عام 2017″، وفيها: “أبرز ما شهده العام تصدّر الفاعلين الإقليميين الثلاثة: روسيا وتركيا وإيران، مقابل انسحاب أميركي متزايد من المشهد”، وهو قول فيه كثير من سوء التقدير، ما الذي يشير إلى انسحاب الولايات المتحدة، وقد سيطرت على شمال شرق سورية، 27% من مساحة سورية، وفيها الجزء الأكبر من ثروتها الطبيعية (النفط والغاز) والزراعية والحيوانية بالإضافة إلى المياه والسدود (ثلاثة سدود على نهر الفرات، وسد على نهر الخابور) والطاقة الكهربائية، نشرت فيها قوات كبيرة، وأقامت سبع قواعد عسكرية ومطارين، ومنبج، وقاعدة التنف (55 كيلومترا مربعا، فيها راجمات حديثة مداها 350 كلم). لم يقف سوء التقدير عند هذا الاستنتاج الساذج والسطحي، بل ذهب بعيدا، عندما قال، “وقد أدّى تراجع الموقف الأميركي في هذا العام، ومعه الموقف الأوروبي، إلى توسّع في النفوذ الروسي، إلى جانب النفوذين التركي والإيراني”، مع أن عام 2017 شهد إطلاق “عاصفة الفرات”، خاضتها قوات سورية الديمقراطية بتخطيط وتسليح ودعم جوي أميركي، والتي طردت “داعش” من مساحاتٍ واسعةٍ في محافظتي الرّقة ودير الزور.
اعتبرت الدراسة أن مسار أستانة “يغيّر الوضع”، وأنه “تمكّن من تحقيق وقف للتصعيد”، وأنه يمتلك شقاً عسكرياً فاعلاً”، و”على المدى المنظور، يتوقع لمسار الأستانة الاستمرار، كما يتوقع له أن يواصل تحقيق نتائج ملموسة في جلب الاستقرار ووقف إطلاق النار في المناطق التي يتعامل معها”. من دون اعتبار لفشل اتفاقات “خفض التصعيد” في تحقيق محتواها: وقف إطلاق القتال، حيث قضم قوات النظام وحلفائه الأراضي التي في حوزة قوى المعارضة متواصل. ورفع الحصار، لم يرفع الحصار عن أي من هذه المناطق، وإدخال المساعدات إلى المناطق، حيث ما تزال صور المرضى وأثر سوء التغذية المرعبة تتوالى، وبقاؤها “حبرا على ورق”، حسب أحد قادة الجيش السوري الحر. صحيح أن الدراسة أشارت إلى تعرضها إلى “خروق واسعة”، لكنها لم تعتبر هذه “الخروق” ذات تأثير يمسّ جوهر الاتفاقات.
وقد بلغت الدراسة حد إعطاء انطباع عن انحيازها السياسي، حين زعمت “وجاءت الدعوة إلى ملتقى سوتشي في الجولة الأخيرة من الأستانة، لتكون بمثابة إعلان عن انطلاق مسار سياسي آخر، بما يُشكّل تهديداً مباشراً لمسار جنيف، خاصة وأن رعاة هذا الملتقى هم من يملكون حالياً قدرة فرض الحلول العسكرية منها والسياسية”. لم تلمس الدراسة مدى الارتباك الذي أصاب روسيا بعد صدور تصريحات أميركية (وزير الدفاع، والناطق باسم قوات التحالف ضد الإرهاب العقيد جون دوريان، والمبعوث الرئاسي الخاص للتحالف الدولي لمكافحة “داعش” بريت ماكغورك) بشأن بقاء القوات الأميركية في سورية، حتى تحقيق الاستقرار والانتقال السياسي.
مقالة الصحافي الإيراني، أمير طاهري، “تحالف سوتشي… ثلاثي الأوهام المتعارضة”، في صحيفة الشرق الأوسط (31/12/2017) عينة أخرى من الخلل في قراءة أحد تحولات المشهد السوري، سمّاه “تحالف سوتشي”، حيث راح الكاتب يثبت استحالة قيام تحالف استراتيجي بين الدول الثلاث، بالاستناد إلى العداوة التاريخية بينها بين القرنين الثامن عشر والعشرين، والتطلعات المستقبلية لكل منها، حيث “تورطت روسيا وإيران فيما لا يقل عن ست حروب كبرى. كما غزت قوات روسية إيران واحتلت أجزاء منها خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. وفي أواخر أربعينات القرن الماضي، حاولت روسيا استقطاع أقاليم كبرى من إيران وتحويلها إلى جمهوريات صغيرة تدور في فلك نفوذها”. و”خاضت روسيا وتركيا ثماني حروب كبرى بين القرنين الثامن عشر والعشرين، وكانا في معسكرين متقابلين خلال الحرب العالمية الأولى. وعلى امتداد عقود الإمبراطورية القيصرية، ضمت روسيا مساحات كبيرة من الأراضي الإيرانية والتركية إليها، منها القرم التي انتزعتها من يد الإمبراطورية العثمانية، وجنوب القوقاز التي انتزعتها من فارس القاجارية”. والتعارضات في رؤاها المستقبلية كما تطرحها مشاريعها الكبرى: “يورآسيا” الروسي، يضم مساحات واسعة من وسط أوروبا وشرقها، وصولاً إلى جبال الأورال، بجانب مناطق آسيا الوسطى وسيبيريا المجاورة مباشرة للمحيط الهادئ. وتتضمن الأجزاء الجنوبية من “يورآسيا”، جنوب القوقاز وإيران وصولاً إلى المحيط الهندي، بجانب بلاد الشام. “العثمانية الجديدة” التركي، ويضم شمال أفريقيا والمشرق العربي والبلقان، والكثير من أرجاء القوقاز والمناطق المحيطة ببحر قزوين والدول الألطية في آسيا الوسطى. “الإسلام النقي” الإيراني القائم على مبدأ “ولاية الفقيه”، ويضم العالم بكليته.
موقف الكاتب من عدم إمكانية قيام تحالف استراتيجي بين “تحالف سوتشي” صحيح لكن ليس للأسباب التاريخية والتطلعات المستقبلية التي ذكرها، والتي تتمتع بأهمية تاريخية كبيرة، لكنها أهمية في إدارة الصراعات محدودة في ضوء حقيقة ثابتة، هي ارتباط التحالفات والعداوات بالمصالح أولا وأخير، وأن ليس للتاريخ ذلك الدور الحاسم في صياغتهما أو تبريرهما (التحالف المتين بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة رغم الماضي الذي شهد حربا ضروسا بينهما، وتحالف الولايات المتحدة والمملكة المتحدة مع الاتحاد السوفياتي، رغم العداء العقائدي، في الحرب ضد ألمانيا النازية)، وإن “توازن القوى” عامل مقرّر في صياغة التحالفات، حيث تلجأ الدولة إلى البحث عن خصوم خصمها، أو المتخوفين من تنامي قوته، وتتحالف معهم من أجل تحقيق “توازن قوى” معه أو التفوق عليه وردعه. يقول ستيفن والت في مقالته “من يخافُ توازنَ القوى؟”، “حينما تحتاجُ حقيقةً إلى حلفاء، فمن غير الممكن أن تكون صاحب خيار”، و”الافتراض القائل إنّ مكوّن الدولة الداخلي يُحدّد تمييزها للأصدقاء والأعداء، أمرٌ بإمكانه أن يضللنا في نواحٍ عدّة”. فقيام التحالف واستمراره مرتبط بالحاجة إليه، وبنجاحه في تحقيق الهدف من قيامه.
في مقالة السفير الأميركي السابق في سورية، روبرت فورد، “عزيزي بوتين… الدولة الأمنية ستخرق أي دستور”، في صحيفة الشرق الأوسط (23/12/2017) استخفاف فاضح بعقل القارئ، باستخفافه بالإنجاز العسكري الذي رعته الولايات المتحدة بطرد “داعش” من مساحاتٍ شاسعة من محافظتي الرقة ودير الزور، شمال وشرق نهر الفرات، حيث قال: “وكانت من أكبر الإنجازات العسكرية الأميركية هناك. غير أنه انتصار عسكري من دون قيمة سياسية فاعلة، رغم كل شيء”. كيف لا تكون السيطرة على ثلث أراضي سورية، الأراضي الأغنى، كما ذكر أعلاه، ولا تكون ذات قيمة سياسية فاعلة، وورقة مساومة على شكل الحل ومستقبل البلاد؟ لا يكتفي الكاتب، وهو خبير سياسي ودبلوماسي مطلع، بالتقليل من قيمة الإنجاز العسكري الأميركي في سورية، بل يثير المخاوف على مستقبل الدور الأميركي فيها يقول: “والأسوأ لم يأت بعد؛ إذ أعلنت واشنطن اعتزامها الحفاظ على وجودها العسكري في شرق سورية حتى إبرام اتفاقية السلام المعنية بإنهاء الحرب الأهلية السورية، لكنها لا تملك النفوذ الكافي لتسهيل عملية السلام هناك”. وكأن الحديث ليس عن القوة العظمى الوحيدة في العالم، بل عن جمهورية من جمهوريات الموز. من حق الكاتب رفض سياسة الإدارة الأميركية في سورية، لكن ليس من حقه تلبيس النتائج، وتدليس الأسباب، حيث للولايات المتحدة أسبابها وأهدافها التي تدفعها إلى غض النظر عما يحدث، أو تعليق الموقف، حتى تبلغ التطورات المدى المطلوب، تحقيقا لأهداف معينةٍ، أو مراعاة لأولويات محدّدة، أو دفع الخصوم للإنهاك، ومفاوضتهم بظروف وشروط مواتية. فالتصريحات الروسية ردا على الإعلان الأميركي بالبقاء في سورية حتى تحقيق الاستقرار والانتقال السياسي، وما فيها من عصبية وتشنّج وارتباك كافية لتفنيد ما كتبه الكاتب عن عدم امتلاك أميركا نفوذا في سورية.
عذراً التعليقات مغلقة