لا أبالغ أبداً، فكيف لطفلٍ يظن أنه ولد في عالمٍ رائع أن يستوعب أنه فردٌ من أفراد شعبٍ كتب عليه العذاب منذ الأزل؟ طفل كبر على وقع صوت المدفعيات ورائحة الغاز المسيل للدموع وأخبار الشهداء والجرحى والأسرى تقضّ مضجعه كلّ مساء عند كلّ نشرة أخبار.
ثم كبرنا، وشهدنا حروب غزة، وانقسام الشعب إلى جديلتين أدمتا كل أمل فينا، ثم حفريات الأقصى، والبوابات الإلكترونية وأخيراً إعلان القدس عاصمة لكيان الاحتلال، فما دام التخاذل أسلوب حياة ستكون النتائج أكثر اسوداداً كلما تعمقنا في القضية أكثر. لكن في كل محنة، كان شعبنا يظهر غيرته على هذا الوطن، كل على طريقته الخاصة، فمنهم المقاوم والكاتب، رسام الكاريكاتير والمخترع والعازف والراقص والسياسي “الشريف”.
لطالما شكلت المقاومة الشعبية الوجه الحقيقي لفلسطين، نازعة عن وجه القضية أي أرقام أو حدود حاول آخرون إقحامها في القضية وجعلها واقعاً علينا القبول به. سياسية الأرقام، وأنصاف الحلول التي اتبعتها السلطة منذ تأسيسها، لم تجلب سوى العار لأبناء فلسطين، ولمن لا يعرفون الكثير عن واقع السلطة في فلسطين، فهي أشبه بالخيل المربوط في شجرة، ليس من صلاحياته التحرك ولا الصهيل في حضرة الشجرة، كل ما يستطيع فعله هو تناول العشب الذي يدنوه كلما نوى الربيع تجديده له. قد يكون الخيل أصيلاً، لكنه اختار الوفاء للطرف الخطأ، فجعل من نفسه أضحوكة بين أصحاب الأصل.
فبعد وهم أوسلو الذي يعتنقه رجالات السلطة دينا لهم، بات الأمر أشبه بالسجن الكبير، الذي تتلقى فيه السلطة، والشعب عقاب الأشغال الشاقة بتحمل كل مهام كيان الاحتلال التي تخلى عنها بسهولة، ليرضي أصحاب الغرور غرورهم بقيام دولة على ما يسمونها حدود 67، وليتحول الشعب الثائر إلى خيار أخير تستخدمه السلطة كلما حشرت في إحدى المآزق.
فبحكم التنسيق الأمني الذي وافقت عليه السلطة، على رجال الأمن التابعين لها إخماد أي انتفاضة، وملاحقة المطلوبين وتسليمهم لجيش الاحتلال، والتجسس على خلايا المقاومين، ونقاط كثيرة أخرى جعلتها السلطة واقعاً يعايشه أهل الضفة الغربية منذ زمن. أما اليوم وهي تتقهقر أمام الكيان الصهيوني، ورغم عدم تراجعها عن أي ميثاق وقعته مع كيان الاحتلال منذ أوسلو وحتى اليوم، فقد حضت الشعب على الثورة، وهددت الاحتلال بأنها لن تتحمل النتائج القاسية لهبة كهذه.
أذكر جيداً، كيف كان أمن السلطة يقمع مظاهراتنا إلى بيت أيل، ويلغي حتى اعتصامات أهالي الأسرى في الميادين الرئيسية لمدينة رام الله، حتى يصل بهم الأمر لضرب المتجمهرين وتفريقهم بالقوة، ولا أستغرب من سماحهم للثائرين من الشباب اليوم بالخروج إلى نقاط التماس ومواجهة قوات الاحتلال بالوسائل المتاحة، فهذا تصرف الضعيف، يتحامى وراء الشجاع العاري. يا لها من وسيلة رائعة للتنصل من المسؤولية، يستشهد شباب بعمر الورد، يجرح آخرون، وتترك أم الشهيد في حزنها غريقة، تشهد حليمة إذ تعود لعادتها الأقدم من قديمة، لتفاوض وتنسق وتقهر كل شريف فينا. فوضع كهذا، إذا ما فكر فيه أي عاقل، سيكون له مخرج واحد، ألا وهو حل السلطة والانسحاب من كل اتفاقيات الذل الموقعة مع الكيان، هكذا يكون تحمل المسؤولية، باقتلاع الذل من جذوره، ومسح أدمغة كل من يجرؤون على ذكر دولة على حدود 67، أو عاصمة على نصف القدس فقط، عندها فقط ستكون المقاومة حقيقة لا استغلالا.
لا يعني كلامي بطبيعة الحال وقف الهبة، أو منع ضمائرنا من تجسيد مواقفها أفعالا موجعة على أرض الواقع، لكن ما أعنيه هو التيقظ دوماً لأي محاولة استغلال من أي طرف سياسي كان، فلو كانت القيادة داعمة بحق لهباتنا المتكررة، لكانت دعمتها بأفعال سياسية في المقام الأول، وما أراه في هذا الحال الذي نشهده، هو أهمية توحيد الصف الشعبوي وتحويل نشاطه إلى نشاط منظم واع لأي تحوير أو تحويل في المواقف، وتكوين جبهة تعي تماماً كيف تخضع السلطة لمطالبها، حتى لا تكون الخسائر خسائر فعلاً، بل رصيداً حقيقياً يسير بنا إلى تحرير القدس وفلسطين من رأس الناقورة إلى خليج العقبة ومن نهر الأردن إلى البحر المتوسط.
Sorry Comments are closed