حرية برس:
أسست جولة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الشرق أوسطية في علاقتها بملفات المنطقة لمقاربة جديدة للعلاقات الدولية، ومثلت إعلانا لنفاذ روسيا مجددا وبقوة إلى قلب المنطقة، مستفيدة من لحظة انخراطها بالحرب السورية، وإداراتها اللاحقة للأزمة وتشابكاتها سياسيا وعسكريا.
وهذه الجولة التي قادت بوتين إلى سوريا،(قاعدة حميميم باللاذقية) وكذلك إلى مصر وتركيا، تعد حصادا لإستراتيجية روسية رسمها بوتين -تلميذ السياسي المخضرم في مسائل الشرق الأوسط يفغيني بريماكوف – انطلاقا من تدخله المباشر في الحرب السورية كبوابة للنفاذ مجددا إلى المنطقة.
ووفق صحيفة واشنكن بوست فإن هذه الجولة أظهرت بوتين بأنه شريك يمكن أن يؤدي دورا رصينا في المنطقة التي أثار فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب الغضب بعد قراره باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، وذهبت إلى اعتبار أن بوتين تفوق على ترمب بالشرق الأوسط.
ويتعامل بوتين مع الدور الروسي كأسلافه مسكونا بهاجس العزلة الروسية، والجغرافيا العصية على التطويع، ومنطلقا من مقولة القيصر ألكسندر الثالث بأن “روسيا ليس لديها ما تعتمد عليه سوى حليفين، جيشها وأسطولها”، لكنه مزج منطق “القوة الصلبة” مع الدبلوماسية الناعمة ومهارة إدارة الصراع لتحقيق أهدافه.
سوريا المفتاح
ومنذ سبتمبر/أيلول 2015 فرض الوجود العسكري الروسي قواعد لعب جديدة في سوريا والمنطقة في ظل التراجع الأميركي الذي فرضته “عقيدة” الرئيس السابق أوباما، وأسس -على الأقل- لوجود عسكري طويل الأمد سواء في طرطوس أو في قاعدة حميميم البحرية، باتفاقيات أقرها مجلس الدوما وسلطات دمشق.
ويرى الكاتب البريطاني روجر بويز في صحيفة التايمز أن الرئيس بوتين اعتمد مبدأ قوامه “لا تدع الحرب الفوضوية تذهب سدى”، في إشارة إلى الاستثمار الإستراتيجي لموسكو للأزمة السورية، وإدارتها لمصلحة الأهداف الروسية منذ التدخل العسكري هناك عام 2015.
وكسبت روسيا وجودا طويل الأمد في المنطقة ومنفذا كبيرا إلى مياه المتوسط “الدافئة”، وبما يضمن ألا تكون القطع البحرية الروسية مثل “البراميل العائمة” كما كان يصفها عسكريون روس إبان الحرب الباردة، حينما كانت الأساطيل الروسية لا تجد قواعد ترسو فيها خصوصا في المتوسط ، على عكس القواعد الأميركية المنتشرة في كل مكان.
ويرى مستشار الأمن في مجلس الدوما الروسي ألكسي بلوتنيكوف أن هذا الدخول الروسي القوي في سوريا “هو قرار إستراتيجي لحماية أمن ومصالح روسيا بمنطقة الشرق الأوسط، ولمواجهة محاولات الغرب للهيمنة على المنطقة”، على حد قوله في حديث للجزيرة نت.
وأعلن بوتين خلال زيارته لقاعدة حميميم بسحب قوات بلاده من سوريا -مع الاحتفاظ بقاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية-، لكن اليد الطولى تبقى لموسكو مع تراجع العمليات العسكرية وإمساكها بخيوط الحل السياسي كما يقول محللون.
ويؤكد الكاتب البريطاني روجرز أن الرئيس بوتين فاز الآن بسوريا، وأن كل ما عليه القيام به هو كسب السلام، وأنه يعرض نفسه لبقية أنحاء الشرق الأوسط بوصفه الرجل الذي يحافظ على البقاء إلى جانب حلفائه في كل الظروف، وأنه سيتم الاعتراف به مرة أخرى بوصفه لاعبا عالميا على حد تعبيره.
العودة إلى الشرق الأوسط
واستطاعت روسيا عبر الحرب السورية أن تنسج علاقات وطيدة مع إيران فيما يشبه التحالف، وصلت إلى حد استعمال قواعدها الجوية. كما استطاعت -وفق مراقبين- استدراج تركيا إلى رؤيتها للحل، ونسجت معها علاقات وطيدة سياسيا واقتصاديا وعسكريا، بعد حادثة السوخوي، إلى حد بيعها منظومة الدفاع الجوي أس 400، وهي الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وكثفت موسكو علاقاتها مع مصر بعد عقود من التراجع، وعادت القاهرة سوقا للسلاح الروسي والمشاريع الضخمة، مثل اتفاقية إنشاء مفاعل الضبعة النووي، كما حصلت على تسهيلات للطيران الروسي في القواعد العسكرية المصرية.
وعقدت موسكو اتفاقات عسكرية واقتصادية كبرى مع السودان، بعد زيارة الرئيس عمر البشير مؤخرا إلى موسكو، تتضمن تزويد الخرطوم بمقاتلات متطورة، كما جرى الحديث عن مشاريع طاقة نووية وقاعدة روسية في البحر الأحمر، والأبرز أن السودان طلبت حماية روسيا من الويلات المتحدة، بما يؤشر إلى عمق العلاقات المستقبلية.
وعلى النقيض من الدور الفوضوي الذي يمارسه ترمب -وفق محللين- يأخذ الروس فرصتهم في إعادة ترتيب علاقتهم بدول الخليج. ووقفت موسكو مع مبدأ الحوار، في أزمة حصار قطر، وحافظت على علاقات متوازنة مع كل الأطراف، كللت بتعاون اقتصادي وعسكري -غير مسبوق- مع دول المنطقة، بما فيها صفقات سلاح، وتعاون عسكري وفي مجال الطاقة النووية .
مرونة سياسية
ويرى محللون أن دخول روسيا إلى خط العلاقات مع دول الخليج العربي -ذات العلاقات التقليدية مع واشنطن-، والتي كانت فاترة إلى سنوات قليلة، ونسجها علاقات مميزة بين جميع الأطراف، يبين حجم الاختراق السياسي الروسي في المنطقة وتعزيز دورها.
ويقول الباحث في مجلس السياسة الخارجية الأميركي ستيفن بلاك إن روسيا لديها إستراتيجية تنفذها من خلال سياسات مدروسة إذ عززت علاقاتها مع إيران وحلفاء آخرين بالشرق الأوسط على عكس واشنطن التي باتت تدخلاتها غير مدروسة ومتشنجة.
ويلحظ أيضا إعادة موسكو لعلاقاتها مع الصومال بعد انقطاع ثلاثين عاما، لتفتح بوابة جدية إلى منطقة القرن الأفريقي، والتعاون المتزايد مع جيبوتي، إضافة إلى العلاقات التاريخية والمتصاعدة مع بلدان المغرب العربي، ليصل النفوذ الروسي إلى ما هو أبعد من حلم المياه الدافئة.
وأشار استطلاع لمعهد “بيو” (pew) الأميركي للأبحاث مؤخرا إلى أن 64% يرون أن روسيا أكثر تأثيرا في الشرق الأوسط من الولايات المتحدة مقارنة بما كانت عليه الأوضاع قبل عقد من الزمن.
ويراهن بوتين على إظهار جديته في الدفاع عن حلفائه، وتعزيز حضوره في مختلف القضايا والتعامل المرن مع تناقضات المنطقة، وهي دروس التقطها حتى حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط الذين رأوا في موسكو العاصمة الأكثر حضورا وتأثيرا في أزمات المنطقة.
وإذا كانت روسيا عبر تدخلها في سوريا وإسنادها سياسيا ثم عسكريا للنظام في السنوات السبع من الأزمة، ووقوفها عموما ضد تحركات الربيع العربي وأهدافه، قد أثارت غضبا شعبيا ورفضا لتوجهاتها، إلا أن مجريات الأحداث في المنطقة والعالم، وكشف ترمب لطبيعة سياسة واشنطن غير المتزنة طرحتا رؤية جديدة للدور الروسي وفق محللين.
عذراً التعليقات مغلقة