مثّل المعارضة السورية في الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف وفد تفاوضي جديد، بعد أن غيّر المجتمعون في مؤتمر الرياض 2 “الهيئة العليا للمفاوضات” والوفد التفاوضي الذي شكلته، من دون أن تقدم الهيئة الجديدة المنبثقة عنه أي توضيحات للسوريين، في الداخل أو في بلدان المهجر، بشأن حيثيات هذا التغيير وأسبابه، والذي يبدو أنه جاء استجابة لضغوط إقليمية ودولية، قدمت على شاكلة “نصائح” و”إرشادات”، تفيد بضرورة الامتثال لـ “الواقعية السياسية” التي تقضي الأخذ بالحسبان جملة المتغيرات على الأرض السورية، بعد التدخل العسكري الروسي المباشر إلى جانب النظام ومليشيات نظام الملالي الإيراني الطائفية، وتغير مواقف دول ما كانت تسمى “مجموعة أصدقاء الشعب السوري” أو “أصدقاء سورية”، التي انزاحت استجابةً لمصالحها إلى مسعى النظام الروسي الهادف إلى القبول بنظام الأسد، أقله في المرحلة الانتقالية، والدخول معه في تسوية، يحضر لها الساسة الروس من خلال اجتراح مسارات تسويةٍ في كل من أستانة وسوتشي، تهدف إلى إعادة الشرعية لنظام الأسد المجرم، وتطويع المعارضة السورية، وتمييع مواقفها، كي تقبل بحوار معه على جملة إصلاحات دستورية وانتخابات في ظل استمراره في نهج القتل والتدمير الذي اتبعه منذ بداية الثورة السورية.
اللافت في كل ما جرى في الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف أن الوفد التفاوضي للمعارضة السورية لا يمتلك مرجعية واحدة ومحدّدة، يعود إليها لاتخاذ المواقف ومراجعتها وتقييم الأداء، أو تقويم الإعوجاج إن حصل، والسبب أن وفد التفاوض تشكل من أعضاء هيئة المفاوضات أنفسهم، ورئيس الهيئة هو نفسه رئيس الوفد، وبالتالي بات التفاوض بلا رأس أو مرجعية.
وعند النظر في أي مسألة تفاوضية يؤخذ بالحسبان التفاهم ما بين المنصات مراعاة للتوازنات القلقة فيما بينها، واختلافات الرؤى والتوجهات التي تختلف باختلاف أجندات الدول التي تحتضن المنصات وأصحابها، فمنصة موسكو معروف مرجعيتها التي لا تحيد عما يخطط له ساسة النظام الروسي، أو بالأحرى النظام البوتيني، الذي يدافع عن نظام الأسد المجرم بكل إمكاناته العسكرية والسياسية وسواهما، ويعتبره الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري، ولا يعترف بمطالب السوريين وتطلعاتهم، ولا بالثورة السورية، ويريد إيجاد حلّ يعيد تأهيل النظام الأسدي. كما أن منصة القاهرة أيضاً معروفة مرجعيتها ومواقفها التي لا تبتعد كثيراً عن مواقف النظام المصري، أما مرجعية “هيئة التنسيق” التي تضع قدماً في ملعب النظام وأخرى في ملعب المعارضة، فهي معروفة كذلك، ويحدّدها الدعم الذي تتلقاه من موسكو وحمايتها لها. ويبقى الإشكال في مواقف ممثلي الائتلاف السوري المعارض، والتي تختلف باختلاف الكتلة التي يمثلونها دخل الائتلاف نفسه، ولا تبتعد عن مواقف مسؤولي الملف السوري في تركيا ودول الخليج والدول الغربية.
ولا شك في أن تشكيل وفد تفاوضي للمعارضة، لا يمتلك مرجعية موحدة، جاء استجابة لمطالب موسكو التي تسعى إلى تمييع المعارضة السورية وتطويعها، كي تستجيب لمخططاتها ومساعيها، ولم تكتفِ بإدخال أعضاء من منصتها ضمن هيئة التفاوض ووفدها، بل تسعى أيضاً إلى ضم ممثلين عن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD)، ومنصتي حميميم وأستانة ومجموعات أخرى، بحجة أن القرار الأممي 2254 طالب بتمثيل واسع لأطياف المعارضة، في حين أن ساسة موسكو لا يقرّون بأن القرار نفسه اعتبر الهيئة العليا للتفاوض التي انبثقت عن مؤتمر الرياض1 الأساس في مسار جنيف التفاوضي، وهم لم يأخذوا من هذا القرار سوى جزئية صغيرة فيه، في حين أن القرار نفسه يؤكد على أن هدف العملية السياسية هو التنفيذ الكامل لبيان جنيف المؤرخ في 30 يونيو/ حزيران 2012، الهادف إلى “إنشاء هيئة حكم انتقالي جامعة تخوّل سلطات تنفيذية كاملة”، ويطلب “الدخول على وجه السرعة في مفاوضات رسمية بشأن عملية انتقال سياسي”، إضافة إلى أنه يحدّد مرحلتين، تفاوضية محددة بستة أشهر تنتهي بتشكيل حكم ذي مصداقية، وانتقالية محددة بثمانية عشر شهراً تنتهي بكتابة دستور جديد، وانتخابات حرة ونزيهة”.
وقد حاول الساسة الروس إفراغ كل القرارات الأممية الخاصة بالمسألة السورية من مضمونها، وساعدهم بذلك الممثل الأممي الخاص إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، الذي راح يوزع قضايا التفاوض إلى سلال، وضع فيها ما يشاء في خلطة عجيبة، وركز على تشكيل المعارضة وفداً واحداً، وساعده في ذلك معارضون سوريون، وذلك بقبولهم السلال الأربع، والدخول ضمن وفد واحد في جلسة افتتاج الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف، وهو أمر أفضى إلى دمج المنصات في هيئة واحدة ووفد واحد، وليس موحدا، في مؤتمر الرياض 2، وباتت جلسات التشاور، وليس التفاوض، مع المبعوث الأممي تجري بلا رأس ولا مرجعية، لأن الأمر قام على أساس المحاصصة بين المنصات والعسكريين والمستقلين، وليس على أساس توحيد المواقف والرؤى وتجييرها خدمة للشعب السوري، والوقوف في وجه نظام الأسد.
ويعود ذلك كله إلى حيثيات مؤتمر الرياض2 ومجرياته، حيث إنه لم يتم تحديد مرجعية للهيئة الجديدة ووفدها، واستدرك بعضهم بالقول إن البيان الختامي هو المرجعية، وهو أمر غير صحيح، لأن ممثل منصة موسكو اعتبر، في المؤتمر الصحافي الختامي للمؤتمر، أن الوفد المشكل واحد وليس موحداً، وسجل تحفظ منصته على الفقرة المتعلقة بتأكيد المجتمعين “رفضهم التدخلات الإقليمية والدولية، وخاصة الدور الإيراني في زعزعة أمن واستقرار المنطقة، وإحداث تغييرات ديمغرافية فيها، ونشر الإرهاب بما في ذلك إرهاب الدولة ومليشياتها الأجنبية والطائفية”، والأهم هو رفضه الفقرة المتعلقة برحيل الأسد في بداية المرحلة الانتقالية، مع أن البيان أفرغ هذه الفقرة من محتواها، حين أكد “أن المفاوضات المباشرة غير المشروطة تعني أن كافة المواضيع تُطرح وتناقش على طاولة المفاوضات، ولا يحق لأي طرفٍ أن يضع شروطاً مسبقة، ولا تعتبر المطالبة بتنفيذ ما ورد في القرارات الدولية شروطاً مسبقة، أو يمنع طرح ومناقشة جميع المواضيع، بما فيها شكل الحكم ونظامه وصلاحيات سلطاته ومسؤوليه، بما فيها موقع رئاسة الجمهورية، والحكومة وغيرها”، أي أنه جعل منصب رئاسة الجمهورية مسألة تفاوضية، وبالتالي حوّل رحيل الأسد إلى مجرد وجهة نظر.
واللافت أن عدم امتلاك الوفد التفاوضي للمعارضة السورية مرجعية محدّدة، يأتي في وقتٍ لا تبدو في الأفق أي إمكانية للتفاوض حول التغيير السياسي المطلوب، من خلال حصر التفاوض حول نقطتين فقط، إصلاحات دستورية وانتخابات، وهذا يعني نسف عملية الانتقال السياسي، أو بالأحرى جعلها محصورة عبر الإصلاحات الدستور والانتخابات، وليس الدخول في مرحلة انتقالية وتشكيل هيئة حكم، وهو أمر مرفوض من غالبية السوريين، وخصوصاً من قوى الحراك السوري الثوري، كونه لا يلبي طموحاتها وأهدافها، بل يلبي رغبة الطرف الروسي الذي يحضر لمؤتمر شوتسي لما يسمى “الحوار الوطني السوري”، والذي أعلنت منصتا موسكو والقاهرة المشاركة فيه، وستشارك فيه أيضاً هيئة التنسيق. وبالتالي ما الموقف الذي ستتخذه هيئة التفاوض الجديدة من هذا المؤتمر الذي يريد تمرير ما يخطط له ساسة الكرملين؟ وهل ستحضر الهيئة المؤتمر أم سترفضه كما رفضته الهيئة العليا للمفاوضات؟ وما موقف الهيئة الجديدة من مشاركة منصاتها فيه؟.
عذراً التعليقات مغلقة