ألم تعترف السلطة أولاً؟

زينب سمارة6 ديسمبر 2017Last Update :
ألم تعترف السلطة أولاً؟

 

ولدت وعشت السنوات الخمس الأولى من حياتي في بلدة الرام التي لا تبعد شيئا عن القدس، وأذكر؛ كما لو أن الأمر قد كان بالأمس، كيف كان جدي، رحمه الله، يأتي إلى بيتنا كل أسبوع ليصحبنا في رحلة إلى القدس والمسجد الأقصى المبارك، وإذا كان القدر في صفنا، كان يصل عدد الزيارات الجميلة تلك إلى اثتنين أو ثلاث. ثم ولد ابن جديد لأوسلو، جدار الفصل العنصري، لتبدأ مرحلة جديدة من الحياة بعيداً عن القدس بلغت الآن 18 عاماً، لم تخللها إلا ثلاث زيارات للقدس.

سأرجع بالذاكرة قليلاً، وسأستعير ذاكرة التاريخ بدلاً من الذاكرة خاصتي، فأنا لم أشهد تلك الطامة التي سبقت ولادتي بعامين، عن اتفاقية أوسلو أحدثكم. وقعت اتفاقية أوسلو في عام 1993، لتشهد أكبر تنازل ممن نصّبوا أنفسهم ممثلين للشعب الفلسطيني لأحقر محتل شهدته البشرية جمعاء، فكان التخلي عن المقاومة، بل نبذها، والاعتراف بحق دولة الاحتلال بـ 78% من أراضي فلسطين، ليتم ترك القدس وحق العودة والاستيطان بنوداً بلا اتفاق، معلقة في الهواء كنملية تعتلي رؤوس ممثلي حكومة الاحتلال يأكلون منها أنّا شاءوا.

يبدو أن وجبة القدس هي المفضلة لدى أطراف عديدة، وجبة كخبز المسيح، لا تنضب. فقد تزاحمت الأحداث مؤخراً جراء إعلان المدعو ترامب نيته الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال ونقل سفارة بلاده، المتواجدة حتى اللحظة في تل الربيع، إلى غربي القدس، أي الجزء الذي تسيطر عليه دولة الاحتلال بعد أن ضمته إلى مناطق حكمها بعد خسارة الجيوش العربية في حرب حزيران.

استشاط غضب السلطة الفلسطينية على إثر ذلك الإعلان، فبدأت كما تابعتم، بضخ تصريحات وإعلانات وتهديدات، تصب كلها في مصب واحد ألا وهو محاولة حفظ عملية السلام. لكن السؤال الذي يراودني منذ بدء هذه الأزمة، والذي نعرف كلنا الإجابة عنه ضمنيا، ألم تعترف السلطة أولا؟ لنواجه الأمر، لا مكان للسذّج في ميدان السياسية، لم يكن إبقاء القدس أمراً معلقاً بمثابة مناورة فحسب، بل كان جرعة مخففة للنسيان الذي جرى مجراه في دم الحكومة الفلسطينية لتسجل التراجع تلو التراجع، لتفتح المجال لأي كان للتدخل في مسألة كهذه.

لا مكان في السياسة لأنصاف الحلول أيضاً، وإن كانت هي الطريق المسدود الذي يتحتم على الطرفين الوقوف عنده في مرحلة ما، فثمّة طرف سيتخذ من خط العودة خياراً قد يغير من خلاله مسار كل شيء. فالسلطة التي ضحت بسلاحها، وأراضيها، قد ضحت أخيراً بنصف عاصمة فلسطين، نصف القدس الشريف، حيث جاء لفظ “القدس الشرقية” كعاصمة لفلسطين، على لسان كل من يتحدثون باسم السلطة، متناسين النصف الآخر الذي يذوب يوماً بعد يوم تهويداً وأسرلة. بتلك التسمية اعترفت السلطة بحق دولة الاحتلال في غربي القدس، ما يعني حق الكيان الصهيوني أيضا بتحويل غربي القدس إلى عاصمة لكيانه دون الرجوع لأحد. وبتصريح رئيسها “نعم نحن نعترف بدولة إسرائيل” اعترفت السلطة سابقاً بحق دولة الاحتلال في فلسطين، فلماذا الاعتراض الآن؟ لكل فعل نتيجة، لهذا على الأفعال أن تحسب بجنونية التفصيل، لا بعمومية ستؤدي عاجلاً أم آجلاً لنتائج صالية. وبرغم كل ذلك ما زال أهم ما يشغل بال السلطة هو سير عملية السلام، في الوقت الذي توقع فيه الشعب الفلسطيني الإعلان المباشر عن إنهاء التنسيق الأمني وقتل أي أمل لمفاوضات جديدة.

أما المصالحة الفلسطينية على الطرف الآخر، فأخشى ألّا تكون إلا فخاً جديداً لتنازل جديد. فما سر التعاون العجيب والسري بين فتح وحماس، والرعاية الذهبية لمصر والأردن والسعودية لهذا المشروع بالذات؟ هل فقد الكيان الصهيوني ثقته بأي اتفاق يعقده مع السلطة الفلسطينية “فتح” بعد تراجع شعبيتها لصالح حماس، أو المقاومة بشكل عام، في الآونة الأخيرة؟ هل من صالحه التعامل مع حكومة تمثل الكل الفلسطيني ليضمن بذلك اصطياد عصافير شجرة البيت الفلسطيني بحجر واحد؟

لا يذكرني الأمر إلا بأمي، وهي الأجل والأعظم من هذا التشبيه، عندما كانت تجمعني بأخي كلما حصلت بيننا مشكلة، وتجبرنا على الصلح ومصافحة بعضنا البعض، حتى يبدأ كلٌ منا بمحاولة إثبات ذاته، فإما أن يجرني أخي لأسلوبه أو أجره إلى اتباع أسلوبي، هذا ما أترقبه حقاً في ملف المصالحة.

خلاصة الأمر أني لم أكن في صغري أزور نصف القدس، كنت أزور القدس، والقدس فقط. وأني لن أغفر لكل من دفع طفلة لا تتجاوز العشر سنوات، سمعتها اليوم، تسأل صديقتها، “فكرك بننقل عسينا؟ بدي استنى ترامب اليوم شو بدو يحكي”.
Comments

Sorry Comments are closed

    عاجل