قبل انعقاد مؤتمر الرياض الثاني لم يكن موقف السعودية قد ظهر للعلن، فكل ما كان يقال من رواية وتداول لأخبار عن أذرع الثورة السورية من الدول الصديقة محض افتراء، وكان سرعان ما يتم وضع حد لكل الأخبار المتداولة عبر منصات التواصل الاجتماعي، بتصريح رسمي من قبل وزير الخارجية عادل الجبير، وغالباً ما يكون القول مقتضباً، بالتأكيد على موقف السعودية من عدم شرعية للأسد والتأكيد على بند الرحيل.
لكن في السياسة كل شيء مباح، فمن كان مصدوماً من مواقف الدول وتغيراتها، فهو بعيد كل البعد عن مبدأ المصالح، وهي اللغة الأولى والمنطق الأوحد لمخاطبة الدول، أما الحديث عن العواطف والتماهي مع إرادات وحرية الشعوب، فهي خطابات لتسكين جروح الشعوب ودغدغة مشاعرهم، وإبر تخدير سرعان ما تنتهي عند أول خطوة عملية تقف في وجه تطلعات الشعوب.
في الأمس القريب انتهت مسرحية تراجيدية في الرياض كان عرابها “عادل الجبير” المُكلف بإدارة الملف السوري من قبل الملك سلمان، حيث شهدت المملكة فصلاً هزلياً رواده شخصيات تحسب نفسها أنها معارضة لنظام الأسد، تصدرت اليوم المشهد السوري، لتتحكم بمصير ملايين السوريين.
كان المشهد واضحاً وصريحاً بإيعاز أمريكي للسعودية، بعقد مؤتمر أخير لتوحيد عبث المعارضة بوفد واحد يتماهى مع تطلعات التسويات والصفقات الدولية.
كانت المملكة مستعدة لإخراج المشهد ولم يكن غائباً عن المشهد إلا لحظة التنفيذ، فهذا المؤتمر لطالما تم تأجيله سابقاً، ريثما يتم هندسة المشهد الدولي وإنهاء دولة الخلافة في سوريا، كان الجميع ينتظر حسم المعارك في ديرالزور والرقة والبوكمال، للقفز مرة أخرى فوق تطلعات السوريين، ووضع نهاية تتناسب مع الجهود المقدمة والمبذولة مسبقاً من الدول الإقليمية عبر سنين مضت في خلق ثورات مضادة لوأد أعظم ثورة عرفها التاريخ .
وقُبيل تحديد موعد المؤتمر، بشهر على الأقل، اتضح موقف السعودية الأخير من الأزمة السورية، خلال زيارة الملك سلمان لموسكو، الزيارة التي وصفت بالتاريخية في أوائل الشهر الماضي، لينتقل الموقف السعودي للظهور العلني بتحديد موقف المملكة الأخير تجاه الأسد، فلغة المصالح اقتضت ترجيح بقاء الأسد مقابل إبعاد خطر إيران عن المملكة وإنقاذ السعودية من مستنقع اليمن، وأخيراً تعزيز وصول محمد سلمان لسدة الحكم.
في الحقيقة لم تكن السعودية مناصرة لثورة السوريين منذ بدايتها، فقد قدمت المملكة دعماً للأسد أربعة مليارات، ودعمت فصائل إسلامية محسوبة عليها لعرقلة عمل الفصائل المعتدلة الرامية لإسقاط الأسد، والجميع يعلم من أسس ودعم ومول جيش الإسلام حامي حمى العاصمة دمشق، فالغوطة اليوم تُباد وسط صمت أممي وعالمي ويموت الأطفال فراداً وجماعة ولا يُحرك جيش محمد علوش أرتاله وجيوشه لفك الحصار أو حتى الضغط على العاصمة دمشق.
كما أن العداء السعودي مع إيران لا يعدو أكثر من تقاطع وتناقض بين مصالح البلدين، فالتوتر الأخير قد ارتفعت حدته على أعقاب تطورات الأزمة في سوريا، ولو كانت السعودية جادة بحربها ضد إيران لكرست كل جهودها في تبني حرية السوريين ودعمت فصائل الجيش الحر بكل جدية، ولكن أن يصل الأمر إلى حد اللا معقول من التناقض فهو ما لا يقبله إنسان عاقل.
السعودية وضعت نفسها في تناقضات كثيرة، ناهيكم أنها أينما دخلت تكون في موضع الخاسر ودائماً المال السعودي هو المنقذ، تدخلت في اليمن فخسرت، تدخلت في سوريا فانقلب السحر على الساحر، وتدخلت في لبنان بقضية استقالة الحريري، فكان الإحراج هو سيد الموقف عقب تدخل الرئيس الفرنسي.
وبالعودة إلى واقعية المشهد السوري، تلقت المملكة التوجهات بتكليف توحيد المعارضة، فاستبعدت المملكة وفد الهيئة العليا للمعارضة المنبثق عن مؤتمر الرياض 1 بقيادة الدكتور رياض حجاب، فقدم الأخير استقالاته على أثر التجاهل السعودي وتبعه استقالات جماعية، تمت الاستعاضة عنهم برجال قد قبلوا بالتوجهات الدولية، فتم تشكيل وفد مطعم بمنصتي موسكو والقاهرة، بقيادة نصر الحريري، وخالد المحاميد، وعلاء عرفات عراب موسكو والرجل الثاني الوفي نظام الأسد بعد قدري جميل.
ماجرى في الرياض صفقة بكل ما تعنيه هذه الكلمة، فحسب الروايات التي تكلمت وشهود حضروا الواقعة فإن السعودية لم توزع على الحشود نسخ عن البيان الختامي للمؤتمر، وتم وضع مسودتين واستبدلت الرياض المسودة الأولى المنصوص بها شرط رحيل الأسد، وهذا من شأنه أن يشكل فضيحة من العيار الثقيل لجهود المملكة، ولكل من سولت له نفسه من الحاضرين القبول والتماشي مع هذا التوجه، وهو ما حصل فعلاً بعد التأكد على محاصصة المقاعد والتمثيل بين أشخاص متفق عليهم مسبقاً على حساب استبعاد بعض المستقلين الذين تم استبعادهم من دون أي ذكرلهم أو الأخذ برأيهم.
هذا الخليط بين المنصات الثلاث أفرز وفداً يتماهي مع التوجه الدولي، وقدم الصك الأخيرمن سلم التنازل، بإزالة بند رحيل الأسد والقبول به في المرحلة الانتقالية للبلاد.
بهذا تكون السعودية قد أنجزت المهمة الموكلة لها، بتوحيد ولملمة فوضى المعارضة، استرضاء لبوتين ولترامب، ولا شك فإن الثمن الأبرز وصول محمد سلمان واستحكام الملك بين يديه بدعم وحماية ووصاية من الغرب، كل هذه الصفقات تحدث على حساب الدم السوري.
أما صقور المعارضة، فقد أصروا على ركوب الموجة واستمروا بمبدأ المراوغة على شعبهم، فبدأ التمهيد للذهاب لجولة جديدة من جنيف المزمع في 28 من الشهرالحالي، سيدخلون للقاعة من دون سقف يذكر، فما قاله نصر الحريري من تحديد جدول الأعمال بمناقشة الحكم الانتقالي يُخالف البتة ما أعلن عنه عراب المسرح السوري ستيفان ديمستورا: بعد وضع الدستور والانتخايات أساسات لا يمكن الخروج عنها في الجولة القادمة.
وبالحديث عن مبدأ الواقعية السياسية التي ينادي بها جمال سليمان، فكيف لوفد المعارضة أن يفاوض النظام على رحيله ومن ببن الوفد المفاوض رجال يتحفظون على رحيله، فما قاله علاء عرفات في المؤتمر الصحفي الذي جاء بعد الإعلان عن تشكيل الوفد المفاوض، لا ينزل بميزان ولا يمكن لإنسان عاقل استيعابه .
حقيقة من المؤكد أن مثل هذا الوفد الذي رضخ لتوجهات الدول، وقبل بالحل النهائي الذي اتفقت عليه الدول الضامنة في سوتشي، لن يكتب له النجاح ولن يحقق الاستقرار في سوريا.
فالدول الثلاث التي ادعت انتصارها على الإرهاب، أقرت مؤخراً الشكل النهائي ويريدون فرضه على السوريين، وهو لا يعدو أن يتلخص بإصلاحات دستورية، وتعزيز مناطق النفوذ الدولية، وصياغة دستور واجراء انتخابات وإبقاء الأسد في السلطة، بهذا تكون المعارضة المنتجة في صفقة الرياض قد أظهرت وفضحت الموقف السعودية وأظهرته على العلن، وشرعنت الرياض ليكون مقدمة لمؤتمر سوتشي القادم، الذي تحاول روسيا أن تعطيه اعتبار دولياً من بوابة جنيف، والمعارضة في جميع الحالات تساهم في تكريس تلك التوجهات على حساب دماء السورين وثوابتهم.
أخيراً أن تصدرأشخاص كأمثال المحاميد عراب دولة الإمارات، وجمال سليمان حامل تطلعات مخرجات فيينا بزعامة السيسي، ونصر الحريري الذي شكرته أمريكا مؤخراً، من المؤكد أن هذا الوفد لم يعد يمثل السوريين، ولا يمكن اختزال المشهد بهذا الوفد، فثورة قدمت مليون شهيد وملايين المشريين وآلاف المعتقلين، هي أكبر بكثير أن تختصر ب 34 شخصية معظمهم أميل لبقاء الأسد.
Sorry Comments are closed