* ورقة تقدير موقف صادرة عن وحدة تحليل السياسات في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
-
التوتر التركي – السعودي وثورات “الربيع العربي”مثّلت ثورات الربيع العربي نقطة خلاف رئيسة بين السعودية وتركيا؛ ففي حين رأت أنقرة في الثورات العربية بخاصة في سورية ومصر فرصةً لتعزيز حجم حضورها في العالم العربي والقيام بدور قيادي على المستوى الإقليمي، رأت فيها السعودية تهديدًا كبيرًا، ليس بوصفها دولة محافظة تعارض الفعل الثوري في المبدأ، وتخشى من ارتداداته عليها فقط، بل لأنّ السعودية اعتقدت أيضًا بوجود تفاهم أميركي – تركي يسمح، أو أقلّه، لا يعارض وصول تيارات إسلامية إلى السلطة في دول “الربيع العربي”، ومنحها فرصة للخروج من ثقافة المعارضة، وتشكّل تركيا نموذجًا لها في الحكم والإدارة.
لقد بلغت الخلافات السعودية – التركية ذروتها في مصر؛ إذ أيّدت السعودية بقوة الانقلاب العسكري الذي أطاح حكم الرئيس محمد مرسي في شهر تموز/ يوليو 2013، وقدّمت له كلّ أشكال الدعم السياسي والاقتصادي الكفيلة بإنجاحه، أمّا تركيا فقد عارضت الانقلاب ليس من باب أنّه أطاح نظامًا حليفًا لها جاء إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع فقط، وإنّما أيضًا لأنّه حرّك مخاوف النخبة الحاكمة في تركيا، والتي طالما عانت انقلاب الجيش عليها وتدخلاته ضدّها، ولم يكن آخرها بعيدًا (قضية أرغنكون عام 2007).
وفي سورية أيضًا، اختلفت دوافع كلٍ منهما في دعم الثورة؛ فالسعودية المعارضة للثورات عمومًا دعمت الثورة في سورية ضد تمدد النفوذ الإيراني، في حين أنّ تركيا بعد أن يئست من حثّ النظام على الإصلاح، دعمت قوى تعدّها قريبة منها في دولة جارة ذات أهمية إستراتيجية بالنسبة إليها. وأدّى التنافس التركي – السعودي ودعم كلٍ منهما فصائل معارضة متنافسة تسعى إلى إسقاط نظام حكم بشار الأسد، إلى تفتيت ساحة المعارضة السورية وتبديد جهودها في معارك جانبية أطالت أمد المواجهة، وأسهمت في تحويل الثورة عن مسارها الأصلي بوصفها مشروع تحرر من الاستبداد والطغيان، إلى صراع أهلي مكلف ومرير.
أسباب التقاربمع سقوط العاصمة اليمنية صنعاء بيد الحوثيين في أيلول/ سبتمبر 2014، بدأ يتضح للرياض التكاليف المترتبة على الدخول في مواجهة ثنائية متزامنة مع إيران وحلفائها (في سورية، والعراق، ولبنان، واليمن، وغيرها) من جهة، ومع تركيا والتيارات الإسلامية القريبة منها لمنعها من الاستفادة من أوضاع الربيع العربي من جهة أخرى. وأدّى وصول قيادة جديدة إلى الحكم في السعودية مطلع عام 2015 إلى إعادة ترتيب أولويات السياسة الخارجية واعتبارات الأمن القومي السعودي، وتمثَّل التغيير الرئيس في إعطاء الأولوية لمواجهة التمدد الإيراني في المنطقة على ما عداها؛ إذ كادت إيران تحكم الخناق على السعودية من خلال اقترابها من السيطرة على اليمن عبر حلفائها الحوثيين، بعد أن غدت صاحبة النفوذ الأكبر في سورية والعراق ولبنان.
وفي ظل اهتزاز الثقة بالسياسات الأميركية، بدا من الصعب حدّ الاستحالة مواجهة إيران واحتواء نفوذها المتصاعد إقليميًا من دون مساعدة قطب إقليمي في حجم تركيا، يضاف إلى ذلك تصدّع النظام الإقليمي العربي، واتضاح عجز مصر عن أداء دور يبرز ثقلها العربي والإقليمي في ظل أزمة داخلية مركّبة، يمثّل العداء للإسلاميين حجر الزاوية فيها.
ويمكن بذلك إجمال أهمّ الأسباب التي ساعدت على إنهاء حالة التنافس وانطلاق مسيرة التقارب بين السعودية وتركيا، كما يلي:
1. العامل الأميركيمثّلت السياسة الأميركية في المنطقة أحد أهم أسباب التقارب السعودي – التركي؛ فالولايات المتحدة التي بدت مستنزفة مع الأزمة المالية التي ضربتها عام 2008، واتجاهها نحو مقاربة تعتمد حدًا أدنى من التدخّل في المنطقة انطلاقًا من فشل سياساتها في العراق وأفغانستان، بدأت تعيد تعريف مصالحها في المنطقة مع ظهور ملامح اكتفائها نفطيًا، نتيجة ثورة الغاز والنفط الصخريين. جعلت هذه التحولات واشنطن أقلّ ميلًا لمراعاة حساسيات حليفها السعودي الذي مثّلت معادلة الأمن مقابل النفط حجر الزاوية في العلاقة معه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وبينما مثّل تخلّي واشنطن عن الرئيس المصري السابق حسني مبارك إبان ثورة 25 يناير، مؤشرًا سلبيًا على مدى التزام واشنطن بحلفائها، مثَّل إصرار إدارة أوباما على التوصّل إلى اتفاق مع إيران حول برنامجها النووي دون أخذ اعتراضات السعودية على دور إيران الإقليمي في الحسبان، نقطة خلاف جوهرية أخرى بين الطرفين.
ومع ظهور تنظيم الدولة وسيطرته على مناطق شاسعة من سورية والعراق صيف عام 2014، بدت واشنطن مهتمة بمواجهة داعش الذي مثّل صعوده تجسيدًا لفشل السياسات الأميركية في العراق في عهد أوباما، أكثر من اهتمامها بمواجهة دور إيران الإقليمي في المنطقة. بل على العكس، بدأ بعض دوائر واشنطن ينظر إلى الحرب على تنظيم الدولة بوصفها نقطة التقاء في المصالح مع إيران، وأخذ من ثم ينظر إلى حلفاء إيران بوصفهم حلفاء محتملين في الحرب على داعش، الأمر الذي أثار قلق السعودية.
وعلى نحو مشابه، مثّلت السياسة الأميركية مبعث قلق كبير لتركيا بخاصة في سورية؛ إذ ظلت إدارة الرئيس أوباما ترفض دعم الموقف التركي المطالب بإنشاء منطقة “آمنة” في شمال سورية، وتزويد المعارضة السورية بأسلحة نوعية تساعد في حسم المعركة ضد نظام الرئيس بشار الأسد، وما زاد الأمر سوءًا بالنسبة إلى تركيا هو اتجاه واشنطن إلى دعم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي يعدّ الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني ذي الميول الانفصالية والمصنف إرهابيًا في تركيا والولايات المتحدة، وذلك لمواجهة تنظيم الدولة. وتنامى القلق التركي بعد أن تمكّن هذا الحزب بدعم أميركي من السيطرة على معظم حدود سورية الشمالية مع تركيا في المنطقة الواقعة شرق نهر الفرات، قبل أن يذهب باتجاه الإعلان عن قيام اتحاد فيدرالي في مناطق شمال سورية وشمالها الشرقي. وهكذا أصبح اختلاف الرؤى مع الولايات المتحدة، من أسباب التقارب السعودي التركي.
2. الرد على التحالف الروسي – الإيرانيبقدر ما مثّل القلق من السياسات الأميركية في المنطقة عمومًا وسورية خصوصًا أحد أهمّ الأسباب الكامنة وراء التقارب التركي – السعودي، مثّل التحالف الروسي – الإيراني في سورية الدافع الآخر الرئيس وراء علاقات أكثر قربًا بين أنقرة والرياض.
لقد مثّلت طموحات إيران الإقليمية مبعثَ قلق مشترك لكلٍ من السعودية وتركيا على السواء، بخاصة بعد أن تركت واشنطن العراق يسقط في دائرة النفوذ الإيراني إثر قرارها الانسحاب منه عام 2011. ومع اندلاع الثورة السورية، وعلى الرغم من اختلاف رؤية الطرفين لها، بدت الرياض وأنقرة مصممتين على منع تكرار خطئهما في العراق وترك سورية تسقط كليًا في دائرة النفوذ الإيراني، ما يعني عمليًا قطع تركيا والعالم العربي عن بعضهما قطعًا كاملًا.
وخلال السنوات الأربع الأولى من عمر الثورة السورية، تمكّنت السعودية وتركيا وقطر من منع النظام السوري المدعوم إيرانيًا من سحق الثورة، بل تمكّنت أيضًا من توجيه ضربات قوية له جعلت حدود سيطرته على الأراضي السورية تتقلص إلى نحو الخمس تقريبًا. لكن التدخّل العسكري الروسي الذي جاء على خلفية فشل إيران في تمكين النظام السوري من الصمود في وجه تقدّم المعارضة في شمال غرب سورية خصوصًا خلال النصف الأول من عام 2015، مثّل تحديًا كبيرًا لكلٍ من السياسات السعودية والتركية؛ فقد حال التدخّل الروسي دون تنفيذ الاتفاق الذي جرى التوصّل إليه بين أنقرة وواشنطن في شهر تموز/ يوليو 2015 بغية إقامة منطقة “آمنة” أو منطقة “خالية من داعش” في شمال سورية لتوطين جزء من اللاجئين السوريين واستخدامها مقرًا للمعارضة السورية. وبالمثل، أدّى التدخّل الروسي إلى إنهاء إمكانية إسقاط النظام السوري عسكريًا، ومن ثم القضاء على النفوذ الإيراني في سورية. وهو الهدف الرئيس للسياسة السعودية في سورية.
لم يؤدِّ التحالف الروسي – الإيراني في سورية إلى منع انهيار نظام الرئيس بشار الأسد فحسب، بل مثّل تحديًا كبيرًا للأمن القومي التركي والسعودي أيضًا، إذ أخذت روسيا تدعم بقوة القوى والأحزاب الكردية الساعية وراء الفيدرالية (وأحلام الانفصال). وتبلور هذا التوجه الروسي خصوصًا بعد التوتر الشديد الذي خيّم على العلاقات الروسية التركية إثر قيام أنقرة بإسقاط طائرة حربية روسية قالت تركيا إنّها انتهكت مجالها الجوي، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015. ونتيجة القلق التركي – السعودي المشترك من استخدام كلٍ من روسيا وإيران الحرب ضد تنظيم الدولة لإعادة تأهيل النظام ومساعدته في استعادة السيطرة على الحدود الشمالية مع تركيا، وميل الولايات المتحدة إلى اعتماد القوى الكردية حليفًا في الحرب ضد تنظيم الدولة، للسيطرة على المنطقة الحدودية نفسها، عرض كلٌ من أنقرة والرياض القيام بالتدخّل عسكريًا لاستعادة الشريط الحدودي الواقع بين جرابلس واعزاز من تنظيم الدولة، وتفويت الفرصة على كلٍ من الأكراد المدعومين أميركيًا وروسيًا وإيرانيًا والنظام المدعوم روسيًا وإيرانيًا، للسيطرة على هذه المنطقة. وللغاية نفسها أيضًا، أعلنت السعودية تشكيل “التحالف الإسلامي لمواجهة الإرهاب” الذي جرى استبعاد إيران منه؛ وذلك للردّ على محاولات إلصاق تهمة دعم الإرهاب بها وبتركيا، وتفويت الفرصة على روسيا وإيران في الاستفادة من الحرب الأميركية على تنظيم الدولة لعزل السعودية وتركيا وتعويم حلفائهما في المنطقة.
3. انهيار النظام الإقليمي العربيأدّى انهيار العراق بفعل الغزو الأميركي، وسقوط سورية في أتون صراعٍ مدمر بعد أن تحوّلت إلى ساحة للتنافس الإقليمي والدولي، وانكفاء مصر وعجزها عن اجتراح دور قيادي في العالم العربي والمنطقة عمومًا، إلى انهيارٍ كامل لبنية النظام الإقليمي العربي الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية. وبقدر ما مثّل غياب قوة عربية فاعلة حافزًا للتمدد الإيراني في المنطقة، فقد مثّل حافزًا لتقارب سعودي – تركي لمواجهة التحديات التي سبقت الإشارة إليها؛ إذ لم يعد بإمكان السعودية الاعتماد على المثلث العربي (العراق، وسورية، ومصر) الذي أدّى في مرحلة سابقة دورًا مانعاً لمحاولات التمدد الإيراني، ولم يعد بإمكان كلٍ من تركيا والسعودية أيضًا الاتكال على تحالفهما مع واشنطن لمواجهة التحالف الروسي – الإيراني، بخاصة بعد أن أبدت واشنطن وحلف الناتو عدم استعدادهما لمساعدة تركيا إلّا في حال الدفاع عن النفس، إذا وقعت مواجهة مع روسيا سواء في سورية أو حتى في الممرات المائية في البحر الأسود.
خاتمةلأسبابٍ جيوسياسية بحتة، ولوجود جملة من المخاطر الكبرى التي تهدد أمنهما القومي (التهديد الإيراني بخاصة بالنسبة إلى السعودية، والتهديد الكردي المدعوم روسيًا بالنسبة إلى تركيا)، قررت الرياض وتركيا تحييد خلافاتهما، والبحث عن مشتركات تساعدهما في مواجهة هذه التهديدات. وبقدر ما تحتاج السعودية إلى قوة عسكرية إقليمية كبرى لموازنة إيران (تملك تركيا ثاني أكبر جيش في الناتو)، تحتاج تركيا إلى دعم قوة اقتصادية ومعنوية كبرى بحجم السعودية لمواجهة محاولات روسيا العبث بأمنها القومي، بخاصة إذا أخذنا في الحسبان أنّ تركيا تعتمد بأكثر من 80 في المئة من احتياجاتها من الطاقة على كلٍ من روسيا وإيران، ما يمثّل معضلة أمنية حقيقية يمكن للسعودية أن تساعد في التخفيف منها، إذا اقتضى الأمر ذلك. وفي كلّ الأحوال يمكن القول إنّ السعودية وتركيا ليس أمامهما من خيار إلّا التعاون، لضبط الفوضى الإقليمية التي تمثّل جزءًا من إستراتيجية التمدد الإيراني والعودة الروسية إلى المنطقة والانكفاء الأميركي عنها.
لقد قامت السعودية (بالتحالف مع دولة الإمارات العربية المتحدة) بدور أساسي ومعلن في إفشال عملية التحول الديمقراطي في المنطقة العربية بعد الثورات. وهي لم تتخلَّ عن هذا الدور، وعن تحالفها مع نظام السيسي. ولكنّها لم تعد تُخضع تحالفاتها الخارجية للعلاقة مع النظام المصري، فقد أصبحت أكثر ديناميكية في تحركاتها الخارجية في محاولةٍ للحفاظ على علاقات مع قوى متخاصمة، فهي تدعم النظام في مصر، وتوثّق العلاقة مع تركيا في الوقت ذاته، أخذاً بالاعتبار احتياجات أمنها القومي ومصالحها الإستراتيجية.
عذراً التعليقات مغلقة