قمة سوتشي.. تغليب المصالح الخارجية وتغييب السوريين

سامر إلياس25 نوفمبر 2017آخر تحديث :
قمة سوتشي.. تغليب المصالح الخارجية وتغييب السوريين

رسمت قمة سوتشي ملامح سوريا الجديدة بعد مرور نحو سبع سنوات على بداية الثورة وسنتين على التدخل الروسي. وكشفت القمة بوضوح تحول سوريا من لاعب إقليمي مهم إلى ساحة لتقاسم النفوذ والمصالح بين اللاعبين الإقليميين والدوليين؛ بعد أن نجحت روسيا في حشد دعم إقليمي وازن لرؤيتها بشأن مستقبل سوريا مع اقتراب دحر تنظيم الدولة الإسلامية.

فقد توّج الرئيس فلاديمير بوتين حراكا دبلوماسيا وسياسيا وعسكريا مكثفا -بإشراف مباشر منه- بعقد قمة سوتشي الثلاثية، التي حصل فيها على دعم من الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والإيراني حسن روحاني لعقد “مؤتمر الحوار السوري”، ليكون أساسا لتسوية سياسية بين السوريين (موالاة ومعارضة) بحضور ممثلين عن مختلف الطوائف والأعراق.

تكشف هذه القمة عن بعض ملامح الحل السياسي في سوريا؛ فرغم تركيز الرؤساء الثلاثة على الجوانب الإيجابية، والاتفاق على ضرورة إيجاد تسوية سياسية تضمن وحدة الأراضي السوري وإعادة إعمار البلاد وعودة اللاجئين، فإن بوتين حذر من أن “المرحلة المقبلة لن تكون سهلة”، وحث كل الأطراف المعنية على تقديم تنازلات، مشددا على أنه “سيتعين على جميع الأطراف القبول بمواءمات وتنازلات.. بمن فيهم الحكومة السورية”.

بين يالطا ودايتون

ذهب بعض المحللين الروس إلى تشبيه قمة سوتشي بمؤتمر يالطا الذي جمع جوزيف ستالين وونستون تشرشل وفرانكلين روزفلت، لتقاسم أوروبا بعدما ظهر رجحان كفة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. فيما رأى آخرون أن القمة تؤسس لـ”اتفاق طائف” أو “اتفاق دايتون” سوري لإنهاء الحرب في البلاد.

وفي الشهر الأخير؛ بدا أن روسيا تستعجل حلا سياسيا يضمن لها دورا محوريا في سوريا، مع تأكيدها على “تحرير” أغلبية الأراضي السورية من “الإرهاب”، وعودتها إلى سيطرة الحكومة السورية والقوات المتحالفة معها.

وبعيدا عن مقارنة حجم وطبيعة الحرب في سوريا بالحرب العالمية الثانية، وعامل الكاريزما للقادة الذين اجتمعوا في منتجعيْ يالطا وسوتشي على البحر الأسود؛ فإن القمة قد ترقى إلى “مؤتمر يالطا سوري” بين البلدان الإقليمية المؤثرة بقيادة روسية (دون اعتراض أمريكي واضح حتى الآن) وغياب عربي.

وعلى الأرض تسيطر إيران ومليشياتها على مساحات واسعة من سوريا بغطاء من نظام بشار الأسد، فيما استطاعت تركيا بتفاهمات مع روسيا -منذ نهاية العام الماضي- فرض سيطرتها على مناطق إستراتيجية في سوريا، وتلعب موسكو دور الحاكم والحَكَم لهندسة الأوضاع على الأرض ومنع الاحتكاك المباشر بين قوات الطرفين (تركيا ونظام الأسد).

ومع تراجع حدة الأعمال القتالية في سوريا؛ ترغب روسيا في أن تؤسس لمؤتمر “الحوار الوطني السوري” في صيغة تحاكي مؤتمر “الطائف اللبناني” الذي أنهى نحو 15 عاما من الحرب الأهلية بين مختلف المكونات اللبنانية.

ولكن مخاطر تقسيم سوريا بسبب تضارب المصالح الإقليمية، وفظاعة المجازر المرتكبة على أساس طائفي منذ قرر نظام الأسد قمع الثورة التي انطلقت سلمية في منتصف مارس/آذار 2011، والتي تصعّب التعايش بين المكونات؛ تُنذر بأن أي حل يمكن أن يفضي إلى اتفاق على غرار” اتفاق دايتون” الذي أنهى الحرب في يوغسلافيا السابقة بتقسيمها إلى دويلات.

ويشي الانخراط المباشر والقوي لبوتين في رسم ملامح الحل السياسي بسوريا برغبة قوية في تسجيل انتصار كبير، قبل أيام من توقعات بأن يُعلِن ترشحه في انتخابات رئاسية مقررة في مارس/آذار 2018 ويُتوقع أن تكون الأخيرة في حياته السياسية.

ويرغب بوتين في تسجيل إنجاز في الملف السوري رغم عدم وجود أي منافس حقيقي له، وتوقعات بأن يفوز بسهولة مع انحسار الأزمة الاقتصادية بعد تحسن أسعار النفط في السنة الحالية، مما خفف تأثير العقوبات الغربية المفروضة على روسيا منذ ضمها شبه جزيرة القروم عام 2014.

وواضح أن بوتين يريد المحافظة على المكتسبات التي حققها بعد نحو عامين من التدخل العسكري المباشر لدعم الأسد، وسبع سنوات من الحماية الدبلوماسية والسياسية التي عطلت محاسبة المسؤولين عن القتل والدمار في سوريا. وقد استطاع الكرملين أن يعود إلى الساحة الدولية بقوة من البوابة السورية، وتمكن من ترسيخ وجوده في البحار الدافئة بقواعد بحرية وبرية، واتفاقات عسكرية واقتصادية مدتها عشرات السنين.

كما وطدت روسيا علاقتها مع البلدان المحيطة بسوريا رغم تضارب مخططات هذه الدول ونظرتها لمستقبل سوريا. واستغل الكرملين الأزمة الخليجية، وانشغال السعودية بقضية حسم توريث محمد بن سلمان للحكم، من أجل خفض سقف المطالب العربية، وتقديم تنازلات تضمن لروسيا الاستمرار في مخططاتها، وإبرازها بصورة الدولة العظمى القادرة على فرض الحلول التي تريدها.

مصالح القوى الإقليمية

بعد ساعات من انتهاء قمة سوتشي؛ نقل التلفزيون التركي عن أردوغان قوله إن “استبعاد العناصر الإرهابية التي تهدد الوحدة السياسية والترابية لسوريا وأمننا القومي، سيبقى من أولويات تركيا”، وشدد على أنه “يجب ألا يتوقع أحد أن يرانا نوافق على أن نكون في المكان ذاته مع منظمة إرهابية”. ويشير حديث أردوغان إلى أولى الصعوبات التي تواجه تنفيذ رؤية بوتين بجمع كل المكونات السورية في مؤتمر واحد.

وتؤكد تصريحات أردوغان مخاوف الجانب التركي -التي لم يُخْفِها يوما- من قيام كيان كردي على حدود بلاده الجنوبية. فمنذ الأيام الأولى للثورة في سوريا؛ تعاملت تركيا مع الموضوع على أنه قضية تمسّ أمنها القومي الداخلي نظرا لوجود حدود مشتركة مع سوريا تتجاوز 900 كيلومترا، ويغلب على مناطق واسعة منها وجود كردي في ثلاث مناطق سورية، وفي 19 ولاية جنوب شرقي تركيا.

وقد دفعت أنقرة فاتورة كبيرة باستضافتها أكثر من ثلاثة ملايين سوري، كما ضربتها عمليات إرهابية خلّفت كلفة بشرية واقتصادية باهظة. واستطاعت روسيا وتركيا إنهاء قطيعة شاملة بينهما سبّبها إسقاط أنقرة مقاتلة روسية 2015. وتسارع التنسيق بين الطرفين على خلفية الموقف الروسي من محاولة الانقلاب الفاشلة ضد أردوغان 2016، لتعود العلاقات أخيرا إلى طبيعتها حسب تصريحات رئيسيْ البلدين منذ نحو أسبوعين.

وسمحت التفاهمات بين الروس والأتراك -إثر السيطرة على حلب- بتحرك الجيش التركي، ومنع التواصل الجغرافي بين المناطق الكردية شرق الفرات وغربه. ورغم زوال خطوط أردوغان الحمر بشأن بقاء الأسد؛ فإن أنقرة لا تستطيع السماح بفدرالية كردية في الشمال السوري، وما زالت مصرّة على رفض تمثيل حزب الاتحاد الديمقراطي في “مؤتمر الحوار السوري”.

ويشكل هذا الموضوع نقطة خلافية مع موسكو، لكنها لا ترقى إلى حجم خلافات أنقرة مع واشنطن الداعمة لمليشيات “قوات سوريا الديمقراطية” ذات الغالبية الكردية، والمسيطرة فعليا على ربع مساحة سوريا الغنية بمواردها النفطية والمائية والزراعية. ومؤكد أن تركيا ستواصل العمل من أجل إنهاء الخطر الكردي في سوريا، وهو ما دفعها للتعاون مع روسيا وإيران، ولا يُستبعَد أن يدفعها ذلك إلى تنسيق مباشر مع النظام.

ومن جهته؛ انتهز الرئيس روحاني القمة للتنديد بالقوات الأجنبية الموجودة في سوريا، وقال إنه “لم تعد هناك ذريعة للإبقاء على وجود عسكري أجنبي على أراضي سوريا دون موافقة الحكومة الشرعية لهذا البلد”.

ورغم اتفاق إيران وتركيا في العمل على منع بروز كيان كردي في سوريا أو العراق، وانتهاجهما البراغماتية وفصل الملفات في العلاقات الثنائية؛ فإن استمرار وجود قوي ودائم لإيران في سوريا يثير مخاوف تركيا، ويشكل اختراقا إيرانيا مهمًّا عجزت عن تحقيقه منذ خمسة قرون.

وتسعى إيران إلى المحافظة على سوريا كـ”ضلع” مهم في “محور الممانعة” الممتد من طهران إلى بيروت مرورا ببغداد ودمشق، مع تشعبات تصل إلى فلسطين. ومنذ بداية الثورة دعمت طهران نظام بشار اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، وجذبت مليشياتها -من لبنان والعراق وأفغانستان وغيرها- للدفاع عنه بحجج مختلفة، بعضها ذو طابع مذهبي بحت.

وترى طهران أن خسارة سوريا أصعب من خسارة الأهواز، لأنها تعني انحسار المد الفارسي في المنطقة، مما دفع رجال دين إيرانيين إلى وصفها بالمحافظة الإيرانية الخامسة والثلاثين.

ومؤكد أن طهران ترغب في أن يفضي “مؤتمر الحوار السوري” المزمع إلى استمرار حكم عائلة الأسد، التي وطدت علاقاتها معها منذ ثمانينيات القرن الماضي، ووقفت معها في الحرب مع العراق زمن الرئيس الراحل صدام حسين. كما تسعى إيران إلى عدم خسارة استثماراتها الكبيرة (سياسيا واقتصاديا) بعد دعمها اللامحدود للنظام.

ورغم عدم بروز مواقف في القمة بشأن سحب مقاتليها والمليشيات الموالية لها من جنوب غرب سوريا؛ فإن الجانب الروسي قادر على تأمين التوازن المطلوب بين مصالح كل من طهران وتل أبيب لمنع الانجرار إلى مواجهة كبيرة بينهما.

تغييب دور السوريين

تُكرِّس قمة سوتشي تغييب دور السوريين -نظاما ومعارضة- في رسم مستقبل بلادهم، وتكشف عن حجم الضغوط على الطرفين لتبني حلول الأطراف الرابحة في الحرب السورية.

ولا يعدو تأكيد القمة أن السوريين هم من يحدد مستقبل بلادهم إلا تكرارا مملا للمواقف الروسية والدولية المعلنة منذ سنوات. ويثير تصريح روحاني السخرية عندما أكد أن “الأمة السورية لن تسمح بأي تدخل للأجانب في شؤونها، وستتصدى لأي تحرك يمس كرامة سوريا واستقلالها ووحدتها”.

ومن الناحية الشكلية؛ يبدو لقاء بوتين مع الأسد في سوتشي قُبيل القمة وكأنه تنسيق في المواقف مع الرئيس الشرعي للبلاد. وعمليا؛ فإن طريقة استدعاء الأسد -من دون وفد مرافق- للمرة الثانية خلال عامين، واجتماعه مع جنرالات روسيا الذين يُنسب إليهم القضاء على “الإرهاب”؛ يبعث برسالة مفادها أن بوتين هو الحاكم الفعلي في دمشق.

كما يعني أن التنسيق بشأن مستقبل سوريا يُبحث معه مباشرة، وهو ما بدا واضحا في اتصالات بوتين المكثفة مع الزعماء الإقليميين والدوليين، والتي جرت بين لقاء الأسد وعقد قمة سوتشي.

ومع الانشقاقات في صفوف المعارضة السورية، وتراجع القوة الرادعة للنظام ومليشيات إيران، وتخلي معظم البلدان العربية عن الشعب السوري؛ فإن الحضور المعارض في مؤتمر سوتشي لن يعبر عن إرادة السوريين الراغبين في التغيير، وستشكل المعارضة “الوطنية” المدعومة من النظام وروسيا وإيران أغلبية ضمن الوفد المعارض.

وفي انتظار التحركات على الأرض ومواقف الولايات المتحدة؛ يصعب التكهن بموعد وبرنامج “مؤتمر الحوار السوري”، وكذلك توقع نجاحه في حل الأزمة. لكن الواضح أن روسيا بدأت جديا مرحلة البحث عن حل مع اقتراب انتهاء تنظيم الدولة، ولعل المؤسف أن الحل المنتظَر مبني على عمل موسكو لإيجاد توازنات تراعي مصالح الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة، دون الالتفات إلى مصالح وإرادة السوريين، وبغياب عربي واضح.

المصدر الجزيرة
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل